تمر العقيدة الأمنية الفلسطينية بمرحلة في غاية التعقيد بعد أن طرأت عليها تغيرات دراماتيكية فرضت قيودا على السلطة الفلسطينية بعد توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وسلطة الاحتلال الاسرائيلي في أوائل التسعينات من القرن الماضي.
د. جودت مناع الكاتب الصحفي ومخرج الأفلام الوثائقية رصد أبرز التغييرات التي طرأت على العقيدة الأمنية الفلسطينية ما بين فترتي الرئيس الراحل ياسر عرفات وخليفة محمود عباس, وفي تحليل مطول قدم ثمانية خطوات من شأنها أن تصحح البوصلة وتعيد العقيدة الأمنية ليكون ولائها فلسطينياً فقط بعيداً عن التنسيق الأمني والعمل لصالج أمن الاحتلال.
مناع أكد أن التوتر إبان رئاسة عرفات مع سلطة الاحتلال ظل قائما ويرجع ذلك الى استمرار الاضطهاد الاسرائيلي للشعب الفلسطيني من ناحية والاستيطان وتهويد القدس من ناحية أخرى. لذلك لم يتردد عرفات بإصدار أوامره لمؤازرة المتظاهرين الفلسطينيين ولو دون إعلان رسمي.
واعتبر ان هذا الموقف ما يميز عرفات عن عباس في الرؤية للعقيدة الأمنية برغم تدهور الوضع الأمني الفلسطينيين وزيادة سريعة لبناء المستوطنات واقتحام المقدسات واكتفى هو ومساعدوه بكيل التصريحات دون أفعال.
ولم تمر بضعة أشهر حتى ترجم فشل كامب ديفيد باندلاع انتفاضة الأقصى وانتهت بعدوان اسرائيلي أسفر عن اعادة احتلال مناطق “أ” في الضفة الغربية وحصار مقر الرئيس عرفات في رام الله وتدمير المقاطعة تماما باستثناء مكتب وقاعة والمسجد المجاور.
وقال مناع "خلال الحصار التقيت بالرئيس عرفات أكثر من مرة وقبل وفاته بثلاثة أشهر سألته في مقابلة صحفية نشرت في الدستور الاردنية: ” ما الذي حققه ياسر عرفات خلال قياداته للمنظمة”".
وتابع "أجاب عرفات وهو يحدق بعينيه في وجهي وكأنه غير راض عن طبيعة السؤال: ” أعطني اسم رئيس عربي استطاع تحقيق شيء حتى الآن في الصراع مع إسرائيل، حاولت صنع السلام لكنني لم أحقق ذلك لعدم رغبة قادة اسرائيل بالسلام”.
وقال مناع "روى لي المسحال قصتين عن عباس، الأولى عندما استضاف في بيته عددا مسؤولي اقليم “فتح” في قطر ومن بينهم عباس. أثناء تقديمه العصائر لضيوف شاهد عباس متكئا على الأريكة إلى جانب مسؤول آخر وهو يصفق بكف يده على كف ذلك المسؤول وهو يقول: ” مصدق انه في “فتح”؟.
وفي خضم النقاش، قال نبيل عمر الذي كان يشغل منصب مستشارا للرئيس آنذاك: “إن اسرائيل اعطتنا 96% من أراضي الضفة الغربية”.
لم يتوانى عرفات في الرد على عمرو بقوله: ” ده كلام كدب”, كان عرفات حازما في مواقف سياسية وعسكرية وبرزت شجاعته خلال الحصار ورفض مغادرة المقاطعة برغم القصف الإسرائيلي من الجو وبالصواريخ وبمدافع الدبابات ولم تكن قوات الأمن الفلسطينية قادرة على مواجهة تلك الضربات او التصدي لجيش الاحتلال خلال اعادة احتلاله كل المدن الفلسطينية عام 2002.
ويوضح مناع أن الواقع العسكري في قطاع غزة كان مغايرا تماما فقد انسحب شارون بتفكيك المستوطنات ثم انسحاب جيشه من القطاع تحت وطأة ضربات عسكرية موجعة نفذتها المقاومة الفلسطينية ضد مواقع جيش الاحتلال والمستوطنات المنتشرة في القطاع ، إلا أن شارون أبقى الحصار مفروضة على القطاع ولا يزال حتى اليوم.
وبين أنه قبل الانتفاضة الثانية كان عرفات على خلاف مع عباس بسبب رفضه منح الأخير صلاحيات حاولت الإدارة الأمريكية فرضها على عرفات عندما عين عباس رئيسا للوزراء، لذلك لم يلتق بعباس مدة عامين قبل استشهاده.
رحل عرفات تاركا وراءه ارثا سياسيا وامنيا واداريا ثقيلا، فكان نائبه محمود عباس من خلفه بمنصب الرئاسة. وكانت اللحظة الحاسمة لإحداث تغيير استراتيجي على الصعد الأمنية والسياسية والإدارية, بحسب مناع.
ويؤكد مناع أن عباس الذي عمل مدرسا في مدرسة بمخيم اليرموك الواقع على مشارف دمشق ثم انتقل الى قطر للعمل هناك. ليست له خلفية سياسية ولا عسكرية فقد تخلى عن عودته إلى بلدته صفد التي طرد منها عام النكبة وتخلى عن حقه في العودة إليها واكتفى برغبته بزيارتها, ما أثار حفيظه غالبية الشعب الفلسطيني لأنه يمس حق الملايين.
في قطر تعرف عباس على عدد من الفلسطينيين الذين تواصلوا بعد الدراسة في القاهرة لتأسيس حركة “فتح” ومن بين هؤلاء المهندس سعيد المسحال الذي كان اول من دعا 18 فلسطينيا في منتصف الخمسينات من القرن الماضي لاجتماع في بيته لبحث سبل مقاومة الاحتلال. كان من بين المدعوين الناشط الطلابي في كلية الهندسة ياسر عرفات. والتقى المسحال أبو جهاد وكمال عدوان في غزة خلال عودته من القاهرة لقضاء إجازة في القطاع.
وقال مناع "روى لي المسحال قصتين عن عباس، الأولى عندما استضاف في بيته عددا مسؤولي اقليم “فتح” في قطر ومن بينهم عباس. أثناء تقديمه العصائر لضيوف شاهد عباس متكئا على الأريكة إلى جانب مسؤول آخر وهو يصفق بكف يده على كف ذلك المسؤول وهو يقول: ” مصدق انه في “فتح”؟.
ويروى مناع القصة الثانية فكانت أثناء اجتماعه مع عرفات في مكتب الأخير في تونس، وخلال اتصال هاتفي من عمرو موسى طلب من عرفات الحضور إلى مصر في اليوم التالي لتوقيع اتفاق القاهرة مع الجانب الإسرائيلي. وعندما اخبره عرفات أنه لا يستطيع قبل أن يطلع اللجنة التنفيذية على فحوى الاتفاق، ألح عليه موسى للقدوم وقال له: “ان لم تحضر هناك من سيأتي ويوقع نيابة عنك.”.
ويقول "انتهت المحادثة فسأله المسحال: من ذا الذي سيوقع نيابة ان لم تسافر إلى القاهرة؟ فأجابه عرفات: “أخوك”. فلم يدرك المسحال من هو أخوه فألح عليه لمعرفة من سيوقع فأجابه عرفات: “أخوك محمود عباس″.
ويضيف أن وثيقة صاغها عباس في السبعينات من القرن الماضي ووزعت على المسؤولين في “فتح”، تتكون من 39 صفحة وطبعت آليا، اطلعت عليها وما تضمنته الوثيقة يبعث على القلق، لا زلت احتفظ بها حتى اليوم وتبين أن ما جاء فيها من اقتراحات ماثلة أمامنا في الاستراتيجية التي يطبقها هذه الأيام.
وبين أنه منذ اليوم الأول لتسلمه خلفا لعرفات، كانت أولويات عباس إجراء تطهير جزئي في مكتبه. بعض التغييرات اتسعت وشملت أكثر من قطاع فأحيل على التقاعد عدد لا بأس به ممن كانوا مقربين من عرفات خاصة ممن يخدمون في الأجهزة الأمنية.
وبدأت ملامح مرحلة جديدة تتجلى أكثر بأكثر من مرور الزمن. فقد عزز عباس التنسيق الأمني مع إسرائيل وبدون شريك امريكي.
ولفت إلى أن سلام فياض قال يوما أن مخيم الدهيشة صنع رجالا فمن يريد أن يكون قائدا عليه العيش في ذلك المخيم. ويبدو ان عباس التقط تلك الملاحظة فعين من المخيم ماجد فرج مديرا للمخابرات العامة ومسؤولا مباشرا عن التنسيق الأمني مع إسرائيل.
واعتبر أن هذا التحول في الاستراتيجية الأمنية الفلسطينية ينعكس على الوضع الداخلي في حركة “فتح” وتمثل في اشتباكات بين من همشوا من الحركة في مخيم بلاطة اكثر من عام وانتمى الى البلدة القديمة من نابلس سابقا وفي هذه الأيام.
وشدد على أن خلافات عباس لم تقتصر على كتائب الأقصى بل طالت علاقاته بحلفائه التقليديين، محمد دحلان، سلام فياض و ياسر عبد ربه أيضا.
واعتبر أن هذه التطورات بالإضافة إلى عدم قيام قوات الأمن الفلسطيني بالدفاع عن المتظاهرين عند الحواجز العسكرية الإسرائيلية على تخوم المدن الفلسطينية كما فعلت قوات الأمن ابان رئاسة عرفات, كما تركت بصماتها على العلاقة بين الأحزاب الفلسطينية المشاركة في السلطة بعضها ببعض وأبرزها مع حركة حماس المعارضة علما أنه لم يعد هناك يسارا معارض كما كان في السابق. وأدت إلى تعميق الانقسام بين حركتي “فتح” و “حماس″. وفي داخل حركة “فتح” نفسها أيضا.
وأشار إلى ان الرئيس المصري السيسي وملك الأردن عبد الله الثاني في لقائهما قبل أيام في القاهرة لم يغفلان عن هذه الخلافات عندما تصدر بيانهما ترحيبا ببيان اللجنة المركزية الداعي لعودة أعضاء “فتح” إلى مكانهم الطبيعي وتثمينا لدور عباس في هذا السياق.
وبحسب مناع فإن العقيدة الأمنية الفلسطينية لا تخضع لاستراتيجية ثابتة بل للضغوطات الأمريكية والاسرائيلية التي تستند الى اتفاق اوسلو وجعلت هذه العوامل الأمن الفلسطيني بلا عقيدة ثابتة بل متغيرة ومتعثرة تمشي كبطة عرجاء وفقا للتطورات الميدانية لا بل رهينة لاتفاق اوسلو.
ويروى مناع القصة الثانية فكانت أثناء اجتماعه مع عرفات في مكتب الأخير في تونس، وخلال اتصال هاتفي من عمرو موسى طلب من عرفات الحضور إلى مصر في اليوم التالي لتوقيع اتفاق القاهرة مع الجانب الإسرائيلي. وعندما اخبره عرفات أنه لا يستطيع قبل أن يطلع اللجنة التنفيذية على فحوى الاتفاق، ألح عليه موسى للقدوم وقال له: “ان لم تحضر هناك من سيأتي ويوقع نيابة عنك.”.
ويقول "انتهت المحادثة فسأله المسحال: من ذا الذي سيوقع نيابة ان لم تسافر إلى القاهرة؟ فأجابه عرفات: “أخوك”. فلم يدرك المسحال من هو أخوه فألح عليه لمعرفة من سيوقع فأجابه عرفات: “أخوك محمود عباس″.
ويضيف أن وثيقة صاغها عباس في السبعينات من القرن الماضي ووزعت على المسؤولين في “فتح”، تتكون من 39 صفحة وطبعت آليا، اطلعت عليها وما تضمنته الوثيقة يبعث على القلق، لا زلت احتفظ بها حتى اليوم وتبين أن ما جاء فيها من اقتراحات ماثلة أمامنا في الاستراتيجية التي يطبقها هذه الأيام.
ويعتقد أن كل ذلك لم يغير في حركة ” فتح” داخليا فحسب، وإنما في المزاج الشعبي الذي بدأ يتململ وينتقد السلطة جهارة باستثناء من ارتبطت مصالحهم بالسلطة الذين يتجنبون للحوض في ذلك.
ويرى مناع أن التعديلات على القوانين العسكرية الفلسطينية المعدلة عام 2005 لا تطبق بل يتم تجاوزها وفقا لمزاج المسؤولين القضاء العسكري الفلسطيني ولو تم تطبيقها من قبل النيابة العسكرية لما قرر عباس الترقيات الأخيرة لعدد كبير من الضباط الفلسطينيين حتى رتبة لواء وبعضهم احيل على التقاعد قبل ترقية رتبته وتحسين راتب التقاعد لهم وهو ما يدل على فساد مستشر من ناحية وغياب مبررات الترقيات فلا انتصارات ميدانية حققها هؤلاء مما يؤشر على غموض يكتنف ما وراء هذه الإجراءات وقد تعتبر في إطار التحضير لخلافته. كل ذلك البذخ لم تحظى به أسر الأسرة ولا العائلات الثكلى التي فقدت أبنائها في المعارك او خلال الاعتداءات الإسرائيلية.
وبين أنه برغم هذه المكافآت، لم تتردد حركة “فتح” في نابلس من مطالبة السلطة بوقف حملتها الأمنية في البلدة القديمة مما يكشف عن انقسام في الموقف الداخلي للحركة. كل ذلك يجري في غياب استقالة اي مسؤول او محاسبة أيا منهم بعد وقوع هذه الأحداث الخطيرة.
وأوضح أن موقف “فتح” في نابلس يستحق الثناء بعد مقتل الحلو في السجن تحت وطأة التعذيب بمشاركة نحو 15 شرطيا فلسطينيا، مع عدم التقليل من خطورة قتل شرطيين اثنين برصاص مسلحين هناك، والكل يتساءل: لماذا حدثت هذه الجريمة مع ان الأمن الفلسطيني الذي يطالب بمعاقبة الخارجين عن القانون ويعيد جنود احتلال ومستوطنين إسرائيليين إلى الارتباط العسكري الإسرائيلي من خلال التنسيق الأمني وهم الأكثر خروجا عن القانون ويقتلون ويشيدون المستوطنات ويهددون أمن كل فلسطيني على مدار الساعة.
ويتزامن هذا التدهور الأمني مع قرب موعد الانتخابات المجالس البلدية و تصريح مسؤول في “فتح” كشف فيه النقاب عن أن 62% من أراضي الضفة الغربية ألحقت بالمستوطنات الإسرائيلية ويفهم من ذلك أن ما تبقى تحت سلطة عباس 9% من مساحة فلسطين التاريخية في الضفة الغربية, كما يقول مناع.
ويلخص مناع تحليله بالقول أن العقيدة الأمنية لا يمكن تصحيح اعوجاجها ما لم تتخذ تدابير تصحيحية جريئة ومنها:
أولا: وقف التنسيق الأمني بذريعة أن لا التزام من الجانب الإسرائيلي بأي اتفاق سياسي أو أمني أو ديموغرافي.
ثانيا: إجراء تعديلات في القيادة العسكرية الحالية اذا لا يمكن لمن تورط في التنسيق الأمني أن يحظى بثقة الشعب الفلسطيني ولا بالتشكيلات الأمنية الحالية بغض النظر عن إمكاناتها المحدودة.
ثالثا: البحث في كيف يمكن تدوير الولاءات الأمنية وتوقفها لخدمة الوطن والشعب بدلا من خدمة أهداف التنظيم الذي وظف العسكريين في هذه التشكيلات.
رابعا: فك الاشتباك السياسي والأمني بين التنظيمات توطئة لإعادة الوحدة فيما بينها بإنهاء الانقسام الذي بات الأخطر على أمن ومصير الشعب الفلسطيني.
خامسا: التخلص من تحالفات إقليمية او دولية تتعارض مع المبادئ والقيم الأخلاقية والإنسانية التي يجب ان تتحلى بها قيادة شعب تحت الاحتلال، لا أن تؤيد احتلال بلد آخر أو تهديد أمنه تلبية لمصالح حزبية ضيقة بل الأخذ بعين الاعتبار الأمن الوطني للبلاد.
سادسا: التخلص من التبعية لتنظيم دولي أو سياسي إقليمي وتعزيز القدرات لصناعة القرار الأمني والسياسي وفقا ومتطلبات هذه المرحلة وأن لا يكون القادة من أصحاب الفكر الجاهز.
سابعا: إجراء تنقلات وتعيينات جديدة في الوظائف الحساسة كمنصب المتحدث باسم الأمن على أسس علمية وقدرات ملموسة في مجال العلاقات العامة وان لا يقتصر هذا المنصب على شخص واحد بالإضافة إلى إتباع أسلوب الشفافية مع الشعب وليس الدعاية الذي يفترض استخدامها ضد الاحتلال من خلال استمالة الرأي العام واقناعه.
ثامنا: العمل على تطهير العقيدة الأمنية من الجنوح إلى استخدام العنف ضد الشعب اطلاقا ومحاسبة كل من تسوله نفسه المساس بأمن الوطن المواطن سواء كان مناسبا للأجهزة الامنية أو من الشعب.
ويختم مناع بأن العقيدة الأمنية قابلة للتحديث وأن لا ينظر إليها كميثاق ثابت. فإذا نظرنا إلى تركيا نلاحظ انقلابا في عقيدتها العسكرية في التعامل مع الأزمات العسكرية الإقليمية ولم يعيب هذا التغيير القيادة التركية بل تنظر الية كمصلحة عليا لأمن البلاد القومي.
وقد تظل هذه الإصلاحات المطلوبة معلقة مالم تتحرر العقيدة الأمنية الفلسطينية من قبضة اتفاق اوسلو أو وقوع تحرك شعبي مفاجئ تقلب كل الموازين للتحرر من الاحتلال.