أسند رأسه على راحة يده اليسرى، وحدّق في دفتر الرسم الذي حصل عليه كجائزة من مدرّس "الفنون الجميلة" الذي نال في مادته علامة كاملة، وبدأ برسم صورة طفلٍ يبتسم للحياة.
تعددت مواهب الطفل (رامي السكسك) من الرسم إلى التدريب على خطّ النسخ والرقعة، وكلّما سمع إشادة من المحيطين؛ زادت نسبة قبوله على ممارسة هواياته، إلى أن أبعدته دراسته عن محبوبه "دفتر الرسم".
"بقيت بين الفينة والأخرى أقترب من دفتر الرسم؛ وكلّما اشتقت إليه أتفنن في بعض الرسومات"، يقول السكسك لـ "الرسالة نت"، ويشير إلى أنّه بدأ يستعيد موهبته في مرحلة الثانوية بعدما هجرها لسنوات؛ وخطط لأن تكون عودته "وفق القواعد".
يضيف: "هجرت الرسم منذ الصغر ولم أكن أعرف قيمته، ولكنني عُدت له مصمما على أن يكون لي مكان في هذا الوسط، ومن خلاله أنقل مُعاناة بلدي ورسالتها".
صوت مبراة قلم الفحم لا تفارق مسامع الشاب رامي؛ كلّما سنّ قلمه استعدادًا لرسم لوحةٍ جديدة؛ وفي آخر رسمةٍ له ينقلنا من خلالها إلى العدوان "الإسرائيلي" الأخير على قطاع غزة، ومشاهد العذاب التي يصمم ضيفنا على أن تكون حاضرة في معظم لوحاته.
يحدّثنا عن عودته التي صمم أن تكون بقوّة في عالم الرسم، يقول: "عامانِ هو الزمن الحقيقي الذي أعتبره ولادة حقيقة لقلمي في هذا الفن، منذ أن بدأت أقلّد بعض الصور والرسوم وأتفنن في اتقانها، وكلّما أخطأت أتعلّم من أخطائي، ولم أستعن سوى بإحساسي في نقش الصورة".
كان "التدرّج اللوني" أولى مراحل التحدّي أمام رامي، والذي شعر للحظة أنّه في منافسة ليتغلّب على أدقّ التفاصيل وتعرّجات الألوان، ومساحات الظلّ، ويظهر معالمها.
ومضت الأيّام، إلى أن أصبح رامي يتقن الرسم بالألوان؛ ويتفنن في مزج بقايا القهوة على لوحاته القماشية، ويخرج صورة تحمل رسالة قضيةٍ فلسطينية، تعود جذورها لسبعة قرونٍ مضت.
اتقانه للرسم كان أرضة خصبة لزيارةٍ غريبة قدمت إلى حيّهم في محافظة رفح جنوب قطاع غزة، كانت على شكل عاصفة رملية؛ وملأت المنزل غبارًا، وكأنّ انعكاسًا رآه ضيفنا للوحةٍ كان قد رسمها مسبقًا، وتجسّدت على بقايا الرمال.
سارع رامي إلى وسط منزله وجلس وبيديه عودٌ خشبي، وباشر برسمةٍ لطفلٍ لا يتجاوز العامين، والتقط لها صورةٌ من خلال "جوّاله"، ونشرها على صفحته الشخصية بموقع "فيسبوك".
"كان القبول على الفكرة شديدًا، لم أتوقّع ذلك"، يقول رامي، ويلفت إلى أنّ معظم من شاهدها طلب منه الاستمرار في هذا الفن.
كانت الفكرة في بداياتها تستهوي رامي؛ لا سيّما أنّ ساعتين فقط هما الزمن الحقيقي لأشدّ الرسومات تعقيدًا، لكنّ نسماتِ هواءٍ قد تغيّر معالم رسوماته، فيبقي جميع النوافذ والأبواب موصدة، حتّى ينتهي من رسمته ويلتقطها عبر هاتفه وينشرها لمتابعيه الذين يزيدون يومًا عن الآخر، ويؤيدون فكرة رسوماته.
يتابع: "كُنت أتوجّه أكثر شيء لرسم القضايا الإنسانية، وأبرزها معاناة الفلسطينيين، وإظهارها للعالم وفق فنٍ أراه جديدًا على الساحة، أظهر غزّة المنكوبة، وأرسم الحرب والدمار، أرسم تجاعيد عجوزٍ عاصر النكبة الفلسطينية، وحكاية شوارعٍ تأوي عشراتُ الأسر ميسورة الحال".
كانت أسئلة مُتابعي رامي عبر صفحته بالفيسبوك تلقي في نفسه شغفًا لأن يظهر حكاية كل رسمةٍ بتعليقٍ يصاحبها، ويعقّب على ذلك: "كثير من المتابعين هم من دولٍ أخرى، وليس الجميع يعرف قصّة الشعب الفلسطينية ونكبته ومعاناته، وأسخّر فنّي لذلك".
وأمّا عن مرحلة الثانوية العامّة، التي أعادت العزلة بين رامي وموهبته، حتّى وصله خبر عبر رسالةٍ هاتفية تخبره: "مبارك نجاحك في التوجيهي.. معدّلك هو (96.4%)".
سجّل رامي تخصص طب الأسنان في جامعة الأزهر، وهو يدرس في عامه الأوّل، وكلّما لقي متسعا من الوقت يتفنن في رسمةٍ يجد نفسه في تفاصيلها، حتّى أضحى يملك إرثًا من مشاهير العالم، يتجسّد برسمه من خلال بقايا الغبار الذي لا يفارق منزله.
يستطرد: "أصبحت أملك مجموعة صورٍ لرسوماتٍ جسّدت شخصياتٍ مشهورة، من مشاهير وزعماء العالم، وسياسيين، ولم أتوقف عن رسم المناظر الطبيعية".
وأكثر ما يزعج رامي، هو عدم احتفاظه بالرسمة التي يستمر قرابة الساعتين في نقشها، وما يمتلكه من ذلك، هو لقطةٌ عبر هاتفه، وأمّا المجسّم ذاته، يندثر مع أوّل نسمة هواء.