"من الواضح أن قرار محكمة العدل العليا، والقاضي بإجراء الانتخابات في الضفة دون غزة، يشوبه خلل كبير من الناحيتين القانونية والوطنية، ويعتبر سابقة خطيرة بدخول أعلى هيئة قانونية في فلسطين حلبة السجال السياسي، وانخراطها في منافسة سياسية لا يُقبل أن تكون أحد أدواتها، وهي أجلّ وأسمى من أن تستخدم من قبل أية جهة، بل هي الحاكم على الجميع، والمراقبة للعملية السياسية، والمانعة لها من التدهور والانهيار، كما هو دور تلك المحكمة في كل الدنيا، فقرارات المحاكم سواء كانت عادية أو عليا، يجب أن يكون ظاهرها وجوهرها قانوني وحيادي، أما أن يكون ظاهرها قانوني وجوهرها سياسي ومتحيز، فهذا مرفوض ومستنكر.
ولحرصنا على استمرار قاعدة الفصل بين السلطات وضرورة أن تبقى السلطة القضائية متربعة على عرش السلطات، نرى أنه لا يليق بمحكمة العدل العليا، بحكم موقعها وعلو مكانتها، أن تقوم بتجزئة الوطن من الناحية الانتخابية والقانونية، وحرمان مئات آلاف الناخبين في غزة من حقهم في المشاركة، وأن تعيق بقرارها عملية التداول السلمي للسلطة في عشرات المجالس المحلية في غزة، صحيح أن عددها قليل(25 مجلساً) ولكنها كبيرة الحجم مقارنة مع مثيلاتها في الضفة، إذ أن عدد الناخبين في مدينة غزة لوحدها يصل إلى 300 ألف ناخب، وأن عدد الناخبين في قطاع غزة حسب لجنة الانتخابات يصل إلى 850000 ناخب، بينما عددهم في الضفة حوالي 1100000 ناخب، بمعنى أن نسبة ناخبي غزة إلى مجموع الناخبين تبلغ (43%)، لذا كان من الأولى والأسلم للمحكمة أن تنأى بنفسها عن السجال والجدل السياسي، وأن لا تقع في خطأ تجزئة وتفتيت الوطن، وأن ترد دعوى الطعن على الانتخابات شكلاً، لأنها ليست صاحبة اختصاص، ذلك أن قانون انتخاب الهيئات المحلية حدد بالضبط مستويات المحاكم التي يجوز للمعترضين التقاضي أمامها، ولم يذكر محكمة العدل العليا لا من قريب ولا من بعيد، كما أن المحكمة بهذا الحكم وبما ورد في نص القرار، أخرجت محاكم غزة جميعها عن القانون واعتبرت أن لا بيئة قانونية في غزة، ونحن هنا من حقنا أن نسأل المحكمة وهيئتها الموقرة عدة أسئلة ذات صلة بالقرار ومتأثرة به: ما هو مصير عشرات آلاف عقود الزواج التي تنظم وتسجل وتوثق في محاكم غزة؟ وما هو مصير عشرات آلاف عقود الأراضي والوكالات الدورية والوكالات العامة التي ينظمها كتبة العدل في قطاع غزة؟ وما هو الموقف القانوني من نقابة المحامين التي تجري انتخابات في غزة ويمارس اعضاؤها عملهم أمام ذات المحاكم، هل هم مخالفين للقانون أم منسجمين معه ومنضبطين به؟ وما هو مصير المنازعات الجزائية والحقوقية التي بتت فيها محاكم غزة وأنهتها وترتب عليها ما ترتب؟ وما هو الموقف من المستندات القانونية التي تصدر عن تلك المحاكم ومعتمدة في وزارات ومؤسسات السلطة في رام الله، سواء كانت إثبات إقامة أو إثبات ملكية أو رهن أرض أو توثيق قرض أو غيرها؟ وما هو مبرر وجود عدد من وزراء الحكومة في غزة، يمارسون عملهم ويتواجدون في مكاتبهم ويعتمدون قرارات محاكم غزة، وهي مرجعيتهم القانونية هناك؟ وكيف زار رئيس الوزراء سابقاً، وكيف سيزور في القادم من الأيام غزة، وهي المنطقة -حسب قرار المحكمة- المنفلتة وغير المنضبطة قانونياً، وهل يقبل رئيس الوزراء أن يحميه المنفلتون وغير المنضبطين؟ وكيف لقرار المحكمة أن ينصف المواطنين ويعيد لهم حقوقهم في الجزء المحاصر والجريح من وطننا، ممن ينشر فيه الفوضى كما تقول المحكمة!!!!!؟ وما هو مصير ما تصدره الوزرات والمحاكم من شهادات ميلاد للمواليد الجدد، وشهادات وفاة وحجج حصر إرث للمتوفين، وتوثيق فقد الهوية والجواز أو أية وثائق أخرى، وتعتمد هذه الشهادات في كل الدنيا بما فيها رام الله؟ وما هو موقف المحكمة من جميع البنوك التي تمارس عملها في غزة وتتعامل مع المحاكم في جميع الأمور، وكان آخرها شهادة كاتب العدل لإثبات إقامة الموظفين الذين يتقاضون رواتبهم من رام الله ويعيشون في غزة وليس خارجها؟ وما هو الموقف من سلطة النقد التي لها فرع رئيسي في قطاع غزة، وكيف تمارس عملها في ظل غياب بيئة قانونية سليمة ومعتمدة ومعترف بها؟ والسؤال الأهم من كل ماسبق، هل البيئة القانونية في الضفة الغربية سليمة، وهل تعيين كبار رجال الدولة يتم وفقاً للقانون والالتزام بالاجراءات، ومن هؤلاء الموظفين: رئيس سلطة النقد وقاضي القضاة ورئيس هيئة الرقابة الإدارية والمالية والمحكمة الدستورية ومجلس القضاء الأعلى وغيرهم؟ وهل مدة المجلس التشريعي ومدة الرئيس ما زالت قائمة؟ ولماذا لم تلتفت المحكمة ولا الطاعن على الانتخابات لقرار محكمة بداية طولكرم بإلغاء ترشح قائمة حركة فتح (التحرر والبناء)، بينما الأعين فُتّحت على قرارات محاكم غزة، وسبب الإلغاء واحد؟ وكيف لذات المحكمة أن توافق على قرارات الاعدام التي صدرت عن محاكم غزة بحق بعض المجرمين، وكان اعتراضها ا
لوحيد ليس على صدور القرار وإنما على ضرورة استكمال إجراءات التنفيذ المتعلقة بمصادقة الرئيس فقط،؟كل هذه الأسئلة وغيرها تقفز إلى الذهن مباشرة ومن حقنا على المحكمة أو من أوعز لها بإصدار مثل هذا القرار أن يجيب عليها.
ونُذَكِّر ذات المحكمة أن انتخابات مجالس الهيئات المحلية جرت في فترة الإحتلال عدة مرات (عام 1972 وعام 1976) وكانت المحاكم التي تنظر في الدعاوى هي محاكم إحتلالية، وشارك مرشحو منظمة التحرير في تلك الانتخابات وتلقت تلك البلديات أموالاً ودعماً معنوياً من المنظمة والدول العربية بعد تشكيلها، فهل نعتبر أن تلك الانتخابات كانت خارجة عن الصف الوطني، كون البيئة القانونية في تلك الفترة كانت تحت الاحتلال، وهل من حقنا بناءً على قرار المحكمة أن نطالب وبأثر رجعي بمحاسبة من اشترك ومن دعم ومن اعترف بنتائج تلك الانتخابات!!!!.
إذاً هو الخطأ بعينه أن تصدر المحكمة مثل هذا القرار، وأن تقحم نفسها في منافسة سياسية هي أكبر من أن تكون أحد أدواتها، وكان الأولى بالمحكمة أن ترد الدعوى، وإن كان ولا بد من التدخل -فبأقصى حد- كان يمكنها أن تحتج على بعض الأمور غير المتوافقة مع القانون، أو أن تصوب بعض الإجراءات، أو تعطي رأيا متوافقاً مع التوجه الوطني لإنهاء الانقسام، أما أن تلغي الانتخابات في جزء وازن ومهم من الوطن، وأن تضيف إلى الإنقسام السياسي والجغرافي إنقسام جديد هو الانقسام القانوني، بحيث ساهمت المحكمة بتحويل الانقسام من انقسام عمودي بين المؤسسات الرسمية، إلى انقسام عمودي بين أبناء الشعب الواحد.
ولهذا نرى أن قرار المحكمة يُعد تدهوراً خطيراً لا يمكن القبول به، وسابقة يجب أن لا يُبنى عليها، وبدلاً من أن تكون المحكمة حافظة لحق المواطن وحامية له من تغول السلطة التنفيذية عليه، أو تحول دون وقوعه ضحية المنافسة السياسية، وأن تبذل الجهد الكافي لاستمرار العملية الدينقراطية، رأينا أن المحكمة بقرارها قد تخلت عن جميع هذه الأدوار، وحالت بتدخلها دون تغيير المجالس المحلية بسلمية وسلاسة، وساهمت في سلب المواطن حقه في المشاركة السياسية، وعززت الانقسام السياسي والجغرافي بانقسام جديد هو الانقسام القانوني، وكل ذلك ليس من حق محكمة العدل العليا، ولا أي جهة أخرى في الوطن أن تمارسه".