شريط بحري يبلغ طوله 35 كيلومتراً ينتشر عليه آلاف الصيادين الغزيين الذين يستخدمون وسائل عديدة في سبيل طلب الرزق دون النظر لشرعيتها ومدى تأثيرها على الثروة السمكية.
"فريق العمل" وخلال خمسين يوماً من البحث عاين العديد من تجاوزات لصيادين تمثلت في استخدام مراكب "الجر"، والشبك الأحمر، والمتفجرات المعروفة "بالبوم" التي تتسبب بآثار كارثية على الثروة السمكية وإنقراض في بعض أنواع الأسماك وقلة في عدد أصناف أخرى.
التجاوزات لم تقف عند ذلك الحد بل تعدتها من خلال ممارسة مهنة الصيد داخل حوض الميناء، المكان الذي تحظر عدة جهات منها سلطة البيئة ودائرة الثروة السمكية في وزارة الزراعة الصيد فيه نتيجة لنسبة التلوث التي بلغت بحسب تحليل أجراه فريق التحقيق لعينات من الحوض أضعاف النسب المسموح بها دولياً.
وفي ظل تلك الممارسات السابقة ومخاطرها عاين معدا التحقيق بالإضافة لشكوى عدة جهات ضعفا في الرقابة من الجهات الحكومية والدليل استمرار التجاوزات حتى كتابة هذه السطور.
حوض الميناء
أولى خطوات التحري بدأت من حوض الميناء البالغ مساحته 250 ألف متر مربع الذي يحوي مياها راكدة منذ إنشائه في العام 1999 ويعد مرفأ لمراكب الصيادين ونقطة تجمع وانطلاق لهم.
فحوصات مخبرية أكدت تلوث مياه حوض الميناء بنسب وصلت لضعف المحذر منه عالميا
ركود المياه بالإضافة للملوثات الناجمة عن وقود السفن، علاوة على وجود أكثر من مضخة لمياه الصرف الصحي غير المعالجة في محيطه بحسب سعد الدين الأطبش مدير عام المياه والصرف الصحي في بلدية غزة، جعل وضع مياه الحوض شديدة التلوث وغير صالحة للصيد والسباحة.
لجأ فريق التحقيق لتحليل عينات من مياه الحوض والتي أظهرت تلوثا شديدا للمياه يصل لضعف المحذر منه عالمياً بحسب مختبرات معهد المياه والبيئة بجامعة الأزهر.
وفي نظرة على الأرقام الواردة في الجدول رقم 1 المرفق مع التحقيق فإن تحليل عنصري Chemical (COD) Oxygen Demand الذي يقيس التلوث العضوي من كل المواد القابلة للأكسدة بالدايكرومات بالماء الملوث. و(BOD5) Biological Oxygen Demand، الذي يقيس التلوث عن طريق معرفة كمية الأكسجين المستهلك للبكتيريا في المياه يظهران تلوثا شديدا في مياه الحوض.
وتوضح نتائج التحليل أن نسبة ((COD بلغت في الحوض كمتوسط للعينات التي جرى فحصها 16.88%، فيما بلغت نسبة (BOD5) 9%، وهو ما يدلل على تلوث شديد بحسب معهد الأزهر حيث تؤكد المعايير الدولية أن تلوثاً شديداً يصيب المياه في حال تجاوز الرقم 8.
أما عن نسب البكتيريا (CFU) التي تعبر عن مجموعة من البكتريا تنتمي إلى عائلة البكتيريا المعوية وتعيش في المياه والتربة فهي مرتفعة جدًا حيث تصل إلى 300 في كل 100 ملم بحسب المركز وهو ما يعني التلوث الشديد.
الثروة السمكية: نتغاضى عن التجاوزات بسبب ممارسات الاحتلال بحق الصيادين
ورغم أن الأسماك الموجودة داخل الحوض ملوثة بحسب الدراسات والجهات المعنية إلا أن مراقبة الحوض من قبل معدي التحقيق لمدة استمرت عشرة أيام بواقع ست ساعات يومياً _ تعتبر وقت الذروة للصيادين _ أظهرت وجود أكثر من 30 صيادا ما بين الممتهنين للصيد والهواة يقومون بالصيد يوميا داخل مياه الحوض دون أي منع من الجهات المعنية.
عطية البرش المختص في حماية البيئة ومسؤول المختبر البيئي في سلطة البيئة أكد على ضرورة منع الصيد والسباحة في مياه حوض الميناء، مشيرا إلى وجود لافتات كبيرة تحدد الأماكن الملوثة وتدعو للامتناع عن الصيد او السباحة فيها لما تسببه من مخاطر على الصحة بسبب نسب التلوث، إلا أنه أقر بوجود تجاوزات من الصيادين وإن كانت محدودة على حد تعبيره.
معدا التحقيق وأثناء تواجدهما في الميناء البحري لم يلحظا أي لوحات تحذر من الصيد في المكان، بل إن التحذير اقتصر على السباحة فقط.
الصياد (ر.ب) _ الذي فضل عدم ذكر اسمه - اعتاد على الصيد في مياه الحوض، فريق التحقيق قابله أثناء إلقاء شباكه بجانب "لسان" الميناء وعند سؤاله في مقابلة مسجلة عن مصير الأسماك الملوثة بحسب اللافتات الموجودة بالمكان قال : "محدش سائل، بعدين أنا باكل من السمك"، في إشارة إلى اعتياده على ممارسة الصيد داخل مياه الحوض دون منع.
صيد جائر
تجاوزات الصيادين لم تقف عند الصيد في حوض الميناء بل تعدتها لممارسات جائرة تضر بالثروة السمكية وتعرضها للإنقراض وهو ما تطلب من فريق البحث أياما إضافية من المتابعة ومراقبة الامر.
نقابة الصيادين: نحاول التصدي لعدد كبير من الصيادين المتجاوزين للقانون
مع ساعات الصباح الأولى، أشعل أحد الصيادين مولد مركبه كبير الحجم المعروفة بـ "لنش الجر"، وبدأ بمساعدة زملائه بإلقاء شباك حمراء اللون، حيث مع تحرك السفينة من منطقة وجودها داخل الحوض تجر في طريقها كل أشكال الحياة البحرية.
تعددت الأساليب غير المشروعة المستخدمة من قبل الصياد السابق والتي تتلخص في سحبه للنش بطريقة الجر، واستخدامه للشبك الأحمر المحرم دولياً والذي يقدر قطر عيونه بـ (4ملم).
الطُرق السابقة تؤثر على الحياة البحرية، فيقضي جر اللنش على الكثير من بيض الأسماك، بالإضافة للأسماك صغيرة الحجم، فيما يتسبب الشبك الأحمر بكنس البيئة البحرية لضيق قطره ما يؤدي لدمار في البيئة السمكية وقلة في عدد الأسماك.
فريق التحقيق حمل ملاحظاته والتجاوزات الحاصلة إلى جهاد صلاح مدير دائرة الخدمات السمكية في وزارة الزراعة الذي أرجع الضعف في الرقابة إلى الأوضاع الاقتصادية للصيادين، مشيرا إلى أنهم ينظرون بعين الإنسانية لحالة الصياد الفلسطيني الممنوع من التقدم للصيد بسبب الاحتلال لذلك يتغاضون عن عدد من التجاوزات.
حديث صلاح عن تغاضيهم عن التجاوزات تزامن مع تأكيده على تلوث مياه الحوض بسبب مضخات المياه العادمة غير المعالجة المنتشرة في المكان، محملاً المسؤولية لبلدية غزة.
البيئة: يجب منع السباحة والصيد في مياه الحوض
وأقر صلاح باستخدام أساليب أكثر خطورة من قبل _متنفذين_ على حد تعبيره أحدها الصيد عن طريق استخدام المتفجرات المعروفة "بالبوم".
وتتلخص طريقة الصيد بالمتفجرات بحسب صلاح على إحداث انفجار تحت المياه يتسبب بفقدان الوعي لدى الأسماك وخروجها إلى سطح المياه عندها يجمعها الصياد بكل سهولة.
وتشكل طريقة الصيد بالبوم مخاطر كبيرة، المتمثلة بتدمير الصخور التي تعتبر بيوتاً وملجأ للأسماك المحلية التي تتكاثر فيها لتكوين النواة الأولى لخلية سمكية جديدة.
من جهته أكد أمجد الشرافي أمين سر نقابة الصيادين في غزة وجود عدد كبير من الصيادين يستخدمون الأساليب غير المشروعة، حاولت النقابة التصدي لهم بالتعاون مع عدد من الصيادين المتضررين عن طريق تقديم الشكاوى للجهات المعنية منها وزارة الزراعة والشرطة البحرية لكنها لم تتلق أي استجابة واضحة على حد قول الشرافي.
آثار مدمرة
حاولنا النظر لحجم الإنتاج السمكي ومدى تأثير الأساليب السابقة على الكميات خلال السنوات الأخيرة إلا أننا لمسنا تضارباً في الأرقام الصادرة ما بين الجهات المختصة ففي حين توافقت إحصائيات مركز الإحصاء الفلسطيني مع دائرة الثروة السمكية والتي تحدثت أن الأعداد في تذبذب طبيعي بفعل الإحتلال وعدد من العوامل الطبيعية.
الشنطي: الممارسات الجائرة وضعف الرقابة تهدد مستقبل الثروة السمكية
ويوضح الرسم البياني المرفق رقم 2 إن كمية الأسماك انخفضت بشكل ملحوظ مقارنة بالسنوات الماضية.
لكن نقابة الصيادين التي منحتنا ارقاما مغايرة اعتبرت أنها هي الأكثر صحة بحكم قربها من الصيادين كما قال الشرافي.
وتأخذ الأرقام الصادرة عن النقابة شكل الانحدار المتواصل، حيث بلغت كمية الناتج السمكي في عام 2014 (1600) طن، أما 2015 (1500) طن وأن توقعاتهم للعام 2016 قد تبلغ (1400) أو أقل من ذلك.
المستقبل والتوقعات
الدكتور حاتم الشنطي رئيس قسم الإنتاج الحيواني والدواجن في كلية الزراعة بجامعة الأزهر، تحدث عن أن طبيعة الثروة السمكية في شح بسبب ممارسات الاحتلال، إلا أن الممارسات الجائرة في ظل ضعف رقابة الجهات المعنية تؤثر سلباً على مستقبل الثروة السمكية.
ويعاني نحو 4 آلاف صياد فلسطيني في قطاع غزة من أطول حصار بحري (إسرائيلي) شهده العالم، حيث تواصل البحرية (الإسرائيلية) انتهاكاتها بحق الصيادين في عرض بحر قطاع غزة منذ عشر سنوات، وتحظر على الصيادين الدخول لأكثر من ستة أميال وهو ما يحد من كميات الأسماك ويزيد من صعوبة الحصول عليها.
اقتصادي: السوق سيواجه عجزا في العرض في حال استمر الوضع على حاله
ويرى الشنطي أن كميات الأسماك الصغيرة التي يصطادها الصيادون بالطرق الممنوعة كان من الممكن أن تؤثر إيجاباً على مستقبل الثروة السمكية في حال تركت تنمو بشكل مناسب.
المحلل الاقتصادي والمحاضر في جامعة الأزهر محمد عثمان أكد أنه إذا استمر مستقبل الثروة السمكية على هذا الحال فإن السوق سيواجه عجزا في العرض من الأسماك وزيادة طبيعية في الطلب، مما سيولد فجوة بينهما، والتالي يؤثر على حجم الناتج المحلي والناتج القومي الإجمالي.
وبتعدد طرق الصيد غير المشروعة سالفة الذكر، يظهر جلياً ضعف رقابة الثروة السمكية وهو الجهاز الرقابي الرسمي المسؤول عن تنظيم عملية الصيد الذي برر ذلك بالظروف الإنسانية والاقتصادية للصيادين بسبب مضايقات الاحتلال المستمرة التي تؤثر على كل مناحي الحياة في قطاع غزة.
ورغم ذلك تتطلب التأثيرات الكارثية التي تضرب حق الأجيال القادمة في الثروة السمكية في مقتل من المعنيين تفعيل العمل بالأنظمة والقوانين حرصاً على الثروة السمكية من الانقراض والتلوث.