في منهاج الجغرافيا كان للوادي تعريف حفظناه عن ظهر قلب، بأنه منخفض طبيعي على سطح الأرض الا أن "وادي العرايس" في حي الشجاعية شرق مدينة غزة سيشطب ما حفظت بشكل تلقائي حين تطأ قدماك أرضه!
قبل أن تصل "الرسالة" ذاك الوادي لتنبش عن اسمه وأصله، توقفت على أطراف منطقة المنصورة بالشجاعية لتسأل عن دقة وجهتها خوفًا من التيه في شوارع الحي المتشعبة.
ابتسامة أبو محمد خلف في الخمسين من عمره بددت شكوكنا بأن نكون قد سلكنا الطريق الخاطئ، حيث قال لمراسلة "الرسالة":" أول مفترق ع ايدك اليمين وادي العرايس .. هناك الحج جميل راح يجاوب على الأسئلة".
أبو محمد الذي اكتفى بوصف دقيق لضيق الوادي الذي لم يتجاوز المترين في خمسينات القرن الماضي، وخوف الناس الشديد عند ذكر اسمه أو الاقتراب من أطرافه!
ازداد شغفنا لمعرفة حكاية الوادي بعد حديث أبو محمد الذي غادرناه باتجاه الوصف، الا أن ذاك الشعور سرعان ما تلاشى بعد أن وصلنا الى مصطبة اسمنتية تكسر رماديتها جلابية الحاج جميل أبو سمرة البيضاء.
جلسنا على كرسي خشبي وضعته احدى قريبات الثمانيني جميل الذي كان يصلي هو الآخر على كرسي يقابلنا، وما ان لف وجهه جهة اليسار مسلمًا بعد صلواته الابراهيمية، تأوّه الآه بمدة طويلة وزفير فهمنا معناه بالشوق لتلك الأيام.
يجيب الحاج جميل دون سؤال، فقد سمع سؤالنا لقريباته عن سبب التسمية لهذا الوادي، فيقول: "سموه بعد ما السيل سحب عروسًا بعد يومين من عرسها وماتت"، وتابع بعد أن أشار بإصبع سبابته الى الجهة التي رماها صوبها السيل:" لقوها بعد ثلاثة أيام والذهب بايدها، ومن يومها وهما بحكوا عن هالشارع وادي العرايس".
شحنة الخوف!
شحنة الخوف من وادي العرايس التي غذتها حادثة موت العروس، مرورًا بشجر الصبر والغيلانا التي تبتلعك في جوفها، وليس انتهاءً بانخفاض أرضه كانت الأسباب التي ذكرها الحاج جميل لخوف سكان الشجاعية من السكن فيه أو حتى البناء، لم تكن الرواية وحدها حيث ذكرت احدى الحفيدات ضاحكة:" أخبرتني جدتي أن شبحًا لعروس كان يلاحق كل من يفكر بالمرور من الوادي".
أصر الحاج جميل أن تملأ حفيدته راحتها بحلويات لتضعها في يدي مراسلة "الرسالة" أثناء حديثنا له وهو يعدد أبرز العائلات التي سكنت المنطقة كعائلة سعد وعرفات والفراحتة وغيرها".
يحاول ابن المنطقة وصف الحدبة التي عليك أن تتخذها شكلًا لظهرك خلال عبورك للوادي من شدة تشابك أشواك الصبر والأشجار التي سرعان ما تختفي أنت بداخلها.
تتشابه أشجار الصبار المتشابكة حول الوادي بشوكها ولونها، كما تتشابه رواية القانطين فيه عن سبب التسمية، فلم يختلف اثنان عن ذكر حادثة العروس التي ماتت غرقًا بالسيل!
الحاجة نصرة الديب 85 عامًا والتي قابلتها "الرسالة" في دكانها لبيع المواد الغذائية، علت الابتسامة محياها كما تجاعيد وجهها وهي تستذكر ذهب العروس الذي وجدوه بحسب رواية جدتها:" كنا نسميه زقاق العرايس.. وادي ضيق ما بقرب منه رجال بشنبات"، ضحك الجميع وضحكت الحاجة التي افترشت الأرض بعد أن عجزت الثمانين عامًا التي عاشتها أن توقفها من جديد على قدميها.
لم تغادر دعوات الحاجة وابتسامتها رغم مغادرتنا دكانها الصغير وحكاياها المشوقة، حيث توجهنا جنوبًا حتى التقينا بالستيني رفيق سعد والذي أكد خلال حديثه أن القوات البريطانية اتخذت من الوادي ثكنة عسكرية لهم خلال انتدابهم في فلسطين.
في نظر الحاج رفيق فإن الشجاع هو من كان يجتاز الوادي وحيدًا ان كان ليلًا أو حتى في ذروة الظهيرة، لم يدرك وقتها أن تلك الرجولة سيدفع ثمنها يومًا عمره، كما دفعتها العروس والنسوة المشاركات في واجب العزاء بحسب حديثه.
فلقد توفيت النسوة مع العروس خلال عودتهم من تقديم واجب العزاء بعد أن هطل المطر بشكل مفاجئ وبكثافة لم يشهدها الوادي من قبل فجرفهن، الا أن الحزن على العروس من بين الضحايا كان الأكبر فارتبط بها.
السرو والجميز
ندرك جيدًا بأن في كل مجتمع خرافات يتناقلها الأجيال الا أن شجرة الجميز المتجذرة بالأرض والتي تعكس لك لوحة فنية لم تكن خرافة، حيث أكد ابن عائلة سعد بأن عمرها يتجاوز الـ 150 عامًا، تماما كشجرة السرو التي تبعد عنها عشر أمتار بانتصاب قامتها هي الأخرى.
من بداية الوادي حتى نهايته تأخذك تعاريجه الممتدة بشكل طولي، في حين تستفز أنفك رائحة الشجر الرطب والأرض المبللة لا محالة حين تزور المنطقة صباحًا، فقطرات الندى على الأوراق ستراها بعينك المجردة، في حين تبصر فلاح الأرض وهو يواظب على ري أرضه قبل أن تذبل بفعل الكتل الاسمنتية التي اجتاحت المكان بسبب العمران!
آخر بيت طرقته "الرسالة" في وادي العرايس أبدى صاحبه خالد عرفات 47 عامًا استياءه من العمران في المنطقة وازديادها بشكل ملحوظ، مفضلًا أن تبقى "الحواكير" بزيتونها وثمارها هي السمة الغالبة على المنطقة على حد تعبيره.
ولفت الى أن أهل المنطقة ما فتئوا يأخذون حذرهم في ليالي كانون الباردة وعند اشتداد المطر قد يلازم أهل المنطقة بيوتهم ولكن ليس بالصورة السابقة حيث ازداد الشارع اتساعا مع البنيان.
"بتدخل بالوادي جعان وبتطلع منه شبعان" هي محاولة من أبو محمد عرفات لسرد إيجابيات "وادي العرايس" وأضاف:" بتحتار ايش تاكل من شجر البرتقال وكلمنتينا والصبر وانت ماشي فيه ".
حديقة منزله التي شاركناه الحديث فيها تطل على شجرة السرو التي حدثنا عنها الحج سعد والتي تعتبر أبرز معالم الوادي التي سقطت خلاله الأعوام في هوته كما سقط ضحاياه في سيله، الا أن شعار أبو محمد لم يسقط بأن الخير منه كان كثيرًا والحياة بين ثناياه هي الأبسط والأجمل في نظره!
وقبل أن يحل المساء غادرت "الرسالة" "وادي العرايس" ليس خوفًا من حكاية الموت فيه، بل لتسرد لكم حكايته عبر السطور، عل أحدكم يتوجه هناك في زيارة , ويكتب بعد التقاطه صورة تذكارية بالوادي:" سلفي وأقدم شجرة سرو خلفي".