قائد الطوفان قائد الطوفان

ليست مجرد أم..

بقلم/ رشا فرحات

كانت تلك الأصوات الصادرة عن بيت جارنا أبي عامر هي حديث أهل الحارة ، فكما يقولون بدأت هذه الأصوات منذ أكثر من ثلاث سنوات تتردد في أوقات متفرقة من اليوم ، صرخات استغاثة وكلمات غير مفهومة بصوت امرأة تحكي تعرض احدهم لوجع أو ضرب أو فراق ،وأنا كنت استغرب هذه الصرخات ولكني أدمنتها بعد مرور خمسة أشهر على استئجاري لهذه الدار ، في البداية كانت تسكنني وأطفالي موجات رعب عند سماعنا لهذه الأصوات ، خصوصاً مع إنكار جارنا صدور تلك الأصوات عن دارهم، ولأننا في مدينة غزة تعودنا سماع أنواع شتى من الصرخات لم يعر أي منا لهذه الأصوات أهمية ..

وقد بت أنام وأصحو عليها برغم استغراب أهل الحي تحملي وأسرتي لذلك فأنا اسكن ملاصقة لبيت أبي عامر ، ونوافذ بيتي تطل على نوافذه بل ويكاد يجمعنا بيت واحد لولا هذه القضبان المنصوبة على نوافذ كل منا ..

لكن ...وفي ليلة غريبة مقمرة جميلة، رأيتها.. عندما دخلت غرفة ابني ذي السبع سنوات فجأة وسمعته يحادث أحداً عبر النافذة ، وما أن اقتربت منه حتى لمحت شبح امرأة مرعبة يختفي خلف النافذة المقابلة في بيت أبي عامر.

أنزلت طفلي وأغلقت نافذته فوراً وبدأت انهال عليه بأسئلتي عن ماهية الشخص الذي كان يحادثه ، فأجابني باقتضاب ..وأصر بشكل مفاجئ على أن هذا سره الذي لا يستطيع البوح به لأحد ، استسلمت لإصراره و احترمت فيه هذه المشاعر وأظهرت له عدم إعارتي أهمية لهذا الموضوع برغم الخوف الذي سيطر علي منذ ذلك اليوم ، فأنا لا اعرف أطفالاً في بيت أبي عامر يمكنهم التحدث مع طفلي، وازداد خوفي أكثر مع تحفظ ابني للمرة الأولى عن الحديث معي في أي موضوع اسأله عنه ، راقبت غرفته خفية ، ليلاً ونهاراً ،حتى أصبح هذا الخوف هو شغلي الشاغل وكل ما يسيطر على مزاج يومي ، و بت أخاف الخروج من البيت وترك أطفالي وحدهم،مضى أسبوع ، أسبوعان ، وأنا أرى طفلي يفتح نافذته كل يوم وينتظر في ذات الساعة ..من ينتظر؟أو ماذا ينتظر ؟ لا ادري ..

حتى جاءت تلك الليلة ، سمعته يتحدث مرة أخرى عبر النافذة ، وبسرعة البرق تسللت لنافذة غرفتي المحاذية لغرفته وراقبت من وراء الستار ذلك المنظر المخيف المبهر ، لمرأة هي بقايا من شبح أنثى تقف على نافذة جارنا وتمد يدها لتلتقط يد ابني بكل حب وحنان قبل أن تبدأ بسرد حكاياتها الرائعة ، عن سندريلا والأميرة النائمة ، والأقزام السبعة ، بلغة عربية قويه وأسلوب مبدع يجرف القلوب ، ثم تغني له بصوت ندي أغنيات مبهرة تدمع لها العيون ، عن طفل غائب ، وأم تبكي لفراقه ، عن عمر ضاع ، وامرأة مسجونة داخل غرفة لا تقوى على استعادته ...امرأة في غاية الغرابة ، ملابسها رثة ، شعرها يملئه الغبار والأتربة وعينان لا تقويان على النظر لأحد ..

بقي حالنا على ذلك فترة طويلة من الزمن .. في كل يوم يستمع ابني لحكايات جارتنا الغريبة ، ثم يودعها ويخلد إلى النوم ، لم أشأ أن أطرح على جارنا أي سؤال يتسبب بمشكلة لهذه المرأة المجهولة المحبوسة في تلك الغرفة ، خصوصاً وقد استنتجت علاقتها بالأصوات التي كانت تستغيث من داره، ورفضت أن احكي له حكاية هذه المرأة التي تطل على حياة ابني بعذب الحكايات وجميل الكلمات ، خصواً وقد تصادف ذلك مع اختفاء صرخاتها التي كنا نسمعها تتردد كل يوم ، ولكن الأسئلة التي كانت تدور في بالي كانت تقتلني وتحيرني ، لا يبدو على حديثها أنها مجنونة ،على عكس ما تظهره صورتها الرثة وثيابها الممزقة ...لماذا هي محبوسة .. يا ترى ما حكايتها ، ما هي قصتها ..ما هو حجم الألم الذي تعرضت له في حياتها لينتهي بها الأمر إلى قضبان هذه الحجرة اللعينة، أخاف أن اكلمها لكي لا يسبب لها وجودي إرباكاً، فتتأثر علاقتها بابني الذي بات متعلقاً بحكاياتها الشيقة ..

انتظاري لم يطل ..لأن الحكاية انتهت في صباح اليوم الثاني ، عندما فوجئنا بتجمهر الجيران على باب أبي عامر ، وسيارات الشرطة تملأ المكان ،وتجمعات وهمسات تطفل تصدر عن حشود المتفرجين على إخراج الضحية ملفوفة ببقايا ثياب قديمة رثة ،هي ..هي صاحبة قصص الطفولة الشيقة ،ذلك السر الذي حرص ابني على كتمانه ..فضح السر أخيراً ..حملت الضحية في عربة لمستشفى الأمراض العقلية ، صرخاتها ملأت المكان ، قبضت على يد ابني برعب بات يتملكني في تلك اللحظة لكي أمنعه من الاندفاع إلى نجدتها، نظراتها إليه كانت تذبحني ..ترعبني ،لكنه استطاع أن  يشد يده من بين أصابعي قبل أن يركض مسرعاً باتجاه العربة التي لم يستطع إدراكها ،فلقد رحلت قبل وصول يدها الممدودة إليه ..

اختفت تلك الأسطورة وبقيت أصواتها تعلو كل لحظةٍ في أرجاء الحارة المليئة بالأسرار تحكي قصة أم حُبست بعد أن طُلقت وحُرمت من رؤية ابنها الوحيد حتى وصل بها شوقها وحرمانها إلى الجنون ...رحلت ..وبقيت أغنياتها العذبة تصدح كل ليلةٍ من نافذة طفلي الصغير...    

البث المباشر