"أخشى أن يكون عياش جالساً بيننا في الكنيست" بهذه العبارة استهل رابين خطابه في الكنيست عام1995، وبهذه العبارة التي تعبر عن مقدار الارتباك والفشل والحيرة التي كانت تكتنف عمل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية أثناء مطاردتها ليحيى عياش أستهل مقالي، إذ يجد المتتبع لسيرة مقاومة صاحب الذكرى للإحتلال "وهو الذي يمكن اعتباره أيقونة العمل الفلسطيني المقاوم ودرة تاجه ورأس سنامه" أنها انطلقت من رؤية واضحة لطبيعة الصراع مع المشروع الصهيوني، إذ اعتبره صراع طويل وحضاري ومصيري ووجودي لا يمكن إنهاؤه إلا بإنهاء أسـبابه وصولاً لإنهاء نتائجه وما ترتب عليه من آثار، وبما أن هذا الصراع بدأ باغتصاب أرض فلسطين والاستيطان فيها وطرد وتهجير سكانها، فهذا يعني أن فلسطين هي سـاحة المواجهـة الرئيسـة مـع هذا المشروع، باعتبارها قاعدة انطلاقه ومحطة استقراره، وبالتالي يجب أن لا تبقى هذه الساحة هادئة ومستقرة كي لا ينعم بالهدوء والاسترخاء الذي يمكنه من استكمال مشروعه الكولونيالي الاستيطاني الإحلالي.
ويدرك المتتبع لسيرته كم كان أفقه واسعاً وسابقاً لسنه وقدراته ومتجاوزاً لحدود الواقع وإمكانات اختراقه، بحيث أدرك منذ وجوده في الجامعة وبمجرد انتمائه للكتلة الإسلامية أن هذا الكيان يسعى بكل قوته لمنع قيام أي إطار مقاوم قادر على مواجهته، وأن الصهاينة يعملون ليل نهار لتطوير قدراتهم العسكرية والمحافظة على تفوقهم على الجميع في هذا الجانب كضمانٍ لاستمرار وجودهم وتفوقهم وسيطرتهم، وبالتالي فإن الفلسطينيين سوف يبلون بلاءً حسناً في هذا الصراع وسيواجهون عدوهم بالذي يعتبره سر تفوقه ونجاحه إذا ما فعلوا مثله وركزوا على الجانب العسكري الذي ركز عليه في المواجهة، وأيقن العياش أن خير طريقة لإدارة الصراع مع المشروع الصهيوني هي حشد طاقات الشعب الفلسطيني لحمل راية الجهاد والكفاح ضـده بكل السبل الممكنة، والحرص على إبقاء جذوة الصراع مشتعلة معه، لحين استكمال شروط حسـم المعركة معه، من خلال استمرار إعداد العدة لقتاله والعمل على كسر الحاجز النفسي الذي يحول دون مواجهته، ولا يكون ذلك إلا من خلال المقاومة المباشرة له.
ومن هنا وبمجرد تخرجه من الجامعة انضم العياش إلى كتائب القسام وفهم فلسفة ودور العمل العسكري في مشروع حماس، الذي يشكل وفقاً لميثاقها وفكرها الوسيلة الاستراتيجية المُثلى لمواجهة المشروع الصهيوني، وسيبقى الضمانة الوحيدة لإشغال "إسرائيل"، وسيحافظ ليس فقط على شرعية مقاومة المحتل وفقاً للمواثيق الدولية، وإنما سيحافظ أيضاً على مشروعية المقاومـة المسلحة ضد "إسرائيل" كهدف رئيسي من أهداف حركات التحرر الوطني الفلسطيني -ومن ضمنها حماس- ومكون أساسي من مكونات وجودها، ما يعني الابقاء على شرعيتها ومشروعيتها والحفاظ على وجودها كتشكيلات مقاومة تهدف إلى التحرير والخلاص من الاحتلال.
غير أن مقاومة العياش للاحتلال لم تكن سهلة المنال، أو كانت بمثابة نزهة يبدأها وينهيها وفقاً لخياراته، وإنما كانت مقاومة صعبة ومضنية واحتاجت لكثير من الجهد والوقت والإمكانات، وتطلبت مقداراً هائلاً من الحيطة والحذر والمطاردة والتخفي والتنقل الدائم وعدم الثبات، والحرص على بناء العلاقة مع العناصر الموثوقة والاعتماد عليهم في التجهيز والإعداد واختيار الأهداف والتنفيذ، وهي التي أتقنها العياش وأبدع فيها أيما إبداع، فالعياش كان يعرف تماماً أن مواجهته للاحتلال ليست سهلة وميسرة ومأمونة المآل، وإنما هي مواجهة مع أجهزة أمنية متمرسة ومسيطرة ومسنودة من جيش واحتلال شرس متغطرس خالٍ من الأخلاق والقيم، وهي موجهة ضده وضد جيشه ومستوطنيه وأمنه ومواطنيه ومنشآته الحيوية ووجوده، وأنها انطلقت من ضرورة مواجهة ممارساته القمعية ضد أبناء الشعب الفلسطيني، وأنها ليست مرتبطة بحالة أو ظرف أو حدث أو بعملية السلام في المنطقة كما كانت تزعم الدولة العبرية وأنصار التسوية السياسية الجاريـة علـى أساس الخلل القائم في موازين القوى، لهذا كله فقد آمن العياش أن المقاومة التي استلم رايتها، ستكون صعبة عليه كما كانت صعبة على الذين سبقوه في هذا الطريق، وخاصة أنه ليس أول من سار في هذا الطريق، وأن المقاومة في فلسطين لم تهدأ منذ احتلالها، واستمرت جذوتها في الازدياد والتصاعد مع الانتفاضة الأولى وانطلاقة حركة حماس وتأسيس كتائب القسام ودخول النمروطي والحسنات وعماد عقل وماهر أبو سرور ومحمود عيسى وعزيز مرعي وعلي عاصي وزاهر جبارين وغيرهم ممن تضيق سطور مقالنا عن ذكرهم، على خط المقاومة والجهاد بشكل واضح وفاعل، فورث العياش منهم النهج وفاقهم في الفعل والأثر والتأثير، وأصبح مدرسة لها أبجدياتها وأدبياتها، وشكل مرحلة فاصلة بين مرحلتين، وتأريخاً جديداً بدأت تؤرخ به مسيرة المقاومة في فلسطين، وأدخل نمطاً جديداً من أعمال المقاومة التي لم تكن موجودة قبله، وركز عملياته في الداخل الفلسطيني، مما مكنه من نقل ساحة
المواجهة إلى قلب "إسرائيل"، وأصبح كل مُحتل لأرض فلسطين عرضة لدفع ثمن اغتصابه لها، وأربكت عملياته دورة حياة المحتلين بكل مكوناتها الاجتماعية والاقتصادية والسياحية والعسكرية والنفسية، وأحالت حياتهم إلى جحيم كانوا بمنأى عن معاينته قبل العياش، وتغيرت معادلة الصراع بشكل جذري، وانهت عمليات العياش -بعد مجزة الحرم الإبراهيمي في الخليل- الزمن الذي كانت تؤكد فيه حماس حرصها على تجنب التعرض للمدنيين، وطوت الأحداث صفحة المبادرات الانسانية التي عرضتها حماس، والتي تقوم على توقف الطرفين عن استهداف المدنيين وإخراجهم مـن دائرة المواجهة، وأعادت تصنيفهم كجنود معتدين، وأنهم ليسوا من المدنيين بل هم غزاة محتلون جاؤوا من أوطانهم واغتصـبوا فلسطين وأوجدوا المعاناة للشعب الفلسطيني.
وهذه الانتقالة في العمل المقاوم والأسلوب الجديد الذي أوجده العياش، هي التي دفعت "إسرائيل" أن تعتبره المطلوب الأول لجيشها وأجهزتها الأمنية، وأطلقت عليه لقب "المهندس" لدقة عملياته وحجم نتائجها، ولبراعته في تصنيع المتفجرات التي كانت تُخلّف مئات القتلى والجرحى وتحدث دماراً هائلاً في المباني والمنشآت والبنية التحتية ووسائل المواصلات.
ولهذا فقد نشطت كل أجهزة الأمن في المنطقة من أجل تتبعه والإيقاع به، ذلك أن منطق العمل السياسي ومبدأ الاحتفاظ بالسلطة يُقدمان أدلة على أن ما من سلطة في الدنيا تقبل من غيرها مقاسمتها احتكار السلطة بملء إرادتها، وأن قبولها بذلك قد تخضع لتقلبات موازين القوى في لحظـة معينة، لكنها لا تستكين لها للأبد، وفي أحسن الاحوال يمكن التعايش مؤقتًا معها على قاعدة التـوازن، ولعل هذه هي إحدى التحديات الرئيسة التي واجهها العياش وكتائب القسام أثنـاء ممارسة العمل العسكري في ظل وجود السلطة الفلسطينية الوليدة كنظام سياسي مسؤول عن الوضع الأمني والسياسي والقانوني في الأراضي الفلسطينية في الضفة وغزة، وهي المنطقة التي كان يتنقل بينها العياش ويمارس فيها نشاطه العسكري، ولعل الصعوبة الأكبر كانت تكمن في تجنيد العناصر في ظل هذا الوضع الأمني المعقد، إلاّ أن العياش وكما ورث خبرة المجاهدين الذين سبقوه، فإنه نجح بنقل خبرته واستطاع أن يورث علمه لمهندسين كثر من بعده، فكان بجدارة هو المهندس الأول "ذو الأرواح السبعة" كما سماه رابين، ولكن يبدو أن مخاوف الاحتلال من جلوس عياش جديد في أروقة الكنيست ما زالت قائمة بالرغم من مرور عقدين من الزمان على استشهاده".