ذكر أمامي الاستاذ عبد الفتاح دخان -وهو أحد السبعة الذين أسسوا حركة حماس- عندما التقيته في سجن " كيلو شيفع" في صحراء النقب عام 1994 وكان عائداً وقتها من مرج الزهور: "عندما أسسنا حماس لم نكن نتوقع أن تصل إلى ما وصلت إليه، وكنا نتمنى في البداية بل ونَسعَدْ كثيراً عندما كانت تُذكر في وسائل الإعلام ولو مرة واحدة في اليوم، حتى ولو بالشتم والسباب أو التشويه والاتهام، غير أن الأمر وصل بعد شهورٍ قليلة أن أصبحت حماس وعملياتها وإضراباتها ومهرجاناتها وتصريحات قادتها واعتقال أفرادها تُذكر عشرات المرات في النشرة الإخبارية الواحدة، مصحوبة بعشرات البرامج التحليلية والحوارية الإذاعية والمتلفزة حول الحركة".
تذكرت هذا اللقاء مع الأستاذ "أبو أسامة" وسردت هذه المقدمة ليس تمجيداً لحماس أو تغنياً بها أو دفاعاً عنها في هذا الوقت الذي تتعرض فيه لهجوم واتهام، وإنما محاولاً تتبع تاريخها ومسيرتها، علني أنجح في عمل مقاربة بين كون العبارة حملت مخاوف ومحاذير مشروعة عند مؤسسيها، وبين كونها عكست تفكيراً عميقاً وطَموحاً عريضاً لديهم تحقق معظمه في حياتهم.
فكثرة الجدل والأخذ والرد الذي دار حول حماس منذ تأسيسها وحتى اللحظة، لا ينفي أنها وصلت إلى ما وصلت إليه وحققت كل هذا الحضور لأسباب منها الموضوعي وأكثرها ذاتي، ولعل أول هذه الأسباب أنها تبنت فكراً وسطياً معتدلاً لم يَحُلْ دون انتماء أو تأييد الكثير من أبناء الشعب الفلسطيني لها، وأثبتت أنهـا حركة كل الجماهير الفلسطينية دون أي تمييز، وتمكنت من المحافظة على هويتها الوطنية الفلسطينية بالرغم من ارتباطها الفكري بجماعة الإخوان المسلمين العالمية، وتمكنت من التغلب على النكوصية التراجعية في الهوية والممارسة الذي وقعت فيه مثيلاتها على الساحة الفلسطينية فبقيت القدس بوصلتها والأقصى عنوانها، وإلى جانب ذلك فقد طورت أهدافها وحافظت على حضاريتها ووطنيتها ووسطيتها رغم حجم التشويه الذي تعرضت له منذ انطلاقتها والملاحقة التي صاحبت مسيرتها، فشقت طريقها دون أن يكون من أولوياتها الانشغال بمن شاغلها بل حرصت أن تبقى خادمة في فضاء القضية الوطنية بعيداً عن المناوشات الداخلية التي ما زال بعض منافسيها يريد لها أن تبقى منشغلة فيها والتي لن يكون آخرها أزمة الكهرباء الحالية، وأكدت قولاً وسلوكاً على التزامها بإنسانية تنظيمها وتسامحها واحترامها للفصائل الأخرى رغم اتهامهم لها، ورفضت أن يكون اختلاف وجهات النظر أو تباين الاجتهادات فـي ساحة العمل الوطني الداخلي مبرراً لاسـتخدام العنـف أو السلاح لفض المنازعات أو حل الإشـكالات أو فـرض الآراء والتصـورات داخـل السـاحة الفلسطينية، وكررت قولها أن ما حصل في غزة لم يكن أكثر من خطوة اضطرارية موجهة لفئة قليلة مارست القتل والبطش والابتزاز والتخريب ضد الجميع (وهو ما أثبتته لوائح الاتهام التي صدرت لاحقاً عن النائب العام في السلطة الوطنية في الضفة ضد هذه الفئة)، وما زالت تؤكد وتسعى لشراكة وطنية حقيقية مع الجميع.
أما ثاني أسباب النمو والتعاظم لحماس وما صاحبه من تأييد في أوساط شعبها وأوساط شعوب أخرى كثيرة، فهو مقاومة الاحتلال الذي اعتبرته الحركة ركيزة استراتيجية من ركائزها وثابت من ثوابتها وليس تكتيكاً مؤقتاً، حتى وإن غاب بعض الفترات عن المشهد إلاّ أنه حاضر في التعبئة والإعداد والإعلام والأدبيات، فالمقاومة في منطق الحركات الثورية –ومن ضمنها حماس- ليس الدخول الدائم في المواجهة بل إن جزءاً مهماً من المقاومة هو الاستعداد للمواجهة، وهو ما أثبتته الحروب التي شُنت على القطاع وكيف كان الأداء خلالها مُبهراً بسبب الإعداد المسبق، وكيف شكلت الانفاق -التي اتهمت حماس أنها تستعملها للثراء والتجارة- دوراً مهماً في صد العدوان والاختراق وتدمير الآليات وأسر الجنود، وتوجت ذلك بصمودها أمام جبروت القوة الصهيونية وواجهت الحروب الثلاث المتتالية التي تعرضت لها دون أنين، لدرجة القول أن جبروت " إسرائيل" القوي المتغطرس انهزم أمام ضحيته الضعيف.
والمقاومة في فكر الحركة ليست هدفاً وغاية بل وسيلة وأداة، ولهذا فقد وافقت على الهدنة أكثر من مرة، ولم تكن يوماً بهدف للوصول إلى السلطة أو زيادة المكتسبات وتثبيت الوجود كما يحاول البعض أن يصور المشهد، بل شدت القوس مع الاحتلال إلى مداه بهدف الانتصار عليه والتحرر منه وتحقيق الاستقلال الوطني، لأنها تعتقد أن المقاومة هي وسيلة الشـعب الفلسطيني الأساسية للإبقاء على جذوة الصراع متقدة مع المحتل، حتى يحين وقت انخراط الأمتين العربية والإسلامية في المواجهة وقيامهما بدورهما الحقيقي تجاه القضية الفلسطينية، وأيقنت أن المقاومة تشكل أداة ردع لمنـع الصـهاينة مـن الاستمرار في عدوانهم، ووسيلة للضغط عليهم لإرغامهم على وقف ممارساتهم المعادية للشعب الفلسطيني، وحرصت على ضرب الاهداف العسكرية وتجنبت المدنيين قدر إمكانها، إلاّ في الحالات التي جاءت من قبيل الدفاع عن النفس أو الرد بالمثل على المذابح التي ارتكبت بحق المدنيين الفلسطينيين، كالهجمات التي نفذتها الحركـة في أعقاب مجزرة الحرم الإبراهيمي، ولهذا كله فقد حظيت بتأييد ومحبة الجميع وما زالت محتضنة وطنياً وليس أدل على ذلك مئات الآلاف التي خرجت في ذكرى انطلاقتها الأخيرة رغم دفعهم ثمن محبتهم لها غالياً.
وثالث الأسباب هو قدرة الحركة على الموازنة بين موقفها المبدئي الرافض لاتفاق أوسلو وما ترتب عليه من مآس وطنية، وبين انخراطها في النظام السياسي الفلسطيني الذي دخلته من بوابة الانتخابات بناءً على اتفاق القاهرة عام 2005، وهو ما مكنها من تجاوز الاتهام بأنها انخرطت في أوسلوا وشاركت على أساسه، فحصدت أصوات الناخبين حتى غدت أغلبية برلمانة وحكومة وطنية، بل وتمكنت رغم هذا الانخراط من الجمع بين ممارستها للمقاومة ضد الاحتلال والاعتبارات الجيوسياسية المحيطة، وبين تحملها التكاليف الأمنية والمجتمعية وأعباء السلطة الوطنية، ولم تتحلل من هذا العبء رغم أن الكل تخلى عنه بما في ذلك حكومة الوفاق الوطني التي شكلتها الحركة مع المنظمة في أعقاب اتفاق الشاطيء.
أما محاولاتها الدائمة لتضميد الجرح الوطني النازف في جدار قضيتنا الوطنية (الأسرى) فهو السبب الرابع لهذا الصعود، فكان إنجاز أول صفقة تبادل في الداخل هو الذي كسر المعايير التي كانت تضعها "إسرائيل" بخصوص الأسرى المؤبدات وأصحاب الأحكام العالية، وجاءت الصفقة لتعزز من قوة حركة حماس وحضورها بين أبناء الشعب الفلسطيني، كونها أنجزت نسبة عاليـة مـن مطالب المقاومة، وأن الصفقة قدمت نموذجاً متميزاً للتمسك بمعاني القوة والصمود والإصـرار على تحقيق الهدف، ومثلت انتصاراً أمنياً للمقاومة تمثل بقدرتها على الاحتفـاظ بالجنـدي الأسير كل هذه المدة، دون أن تتمكن "إسرائيل" من العثور عليه رغم إمكانياتها العالية، ممـا شكل دفعةً قويةً للشعب الفلسطيني ومنحه جرعة قوة في مواجهة الإحتلال من ناحية، ومكن حماس من تحرير عدد من الأسـرى الذين لم يكن متوقعاً أن يرى أحد منهم الحرية بسبب أحكامهم العالية من ناحية ثانية، وأن الصفقة انسجمت مع المصلحة الوطنية الفلسطينية كونها شملت كل ألوان الطيف السياسي الفلسطيني مـن الأسرى المفرج عنهم من ناحية ثالثة.
ويجب أن لا يغيب عن بالنا سبب خامس من أسباب تقدم ونمو حماس، ألا وهو قدرتها على تجاوز التحشيد الدولي الكبير ضدها ومواجهتها لقرارات المؤتمرات الدولية التي عُقدت لهذا الهدف، كونها تمكنت من الفصل بين جهازيها العسكري والسياسي من ناحية، والسياسي والدعوي من ناحية أخرى، ما مكنها من الفصل بين علاقة الصدام الدائم مع الاحتلال، وهو الصدام المشروع وفق القوانين الدولية الذي مارسه جهازها العسكري، وعلاقة الدعوة وبث القيم والأخلاق والمُثل العليا الذي مارسه جهازها الدعوي، وعلاقة التنسيق والوئام والشراكة مع الداخل الفلسطيني والمحيط الإقليمي واستثمار العلاقة مع المؤسسات الحقوقية والدولية وفضح ممارسات الاحتلال على المستوى الدولي الذي مارسه جهازها السياسي، أما الانشغال بالمحيط وأحداثه فإنه يُحسب لحماس أنها لم تنشغل كثيراً بتسارع الأحداث وتواليها من حولها، كون الظروف المحلية والإقليمية والدولية تشهد تغيرات كبيرة ليس من السهل تحديد الموقف منها بسهولة، هذا مع إدراك الحركة لخطورة وضرر وفداحة ما يجري حولها، لذا فقد اكتفت بالتعليق عليها بمقدار تأثيرها على القضية الوطنية ليس أكثر.
أما سادس الأسباب وآخرها في مقالنا فهو تحالفات الحركة وعلاقاتها الإقليمية، فبالرغم من أنه بدى أنها تبدلت أكثر من مرة إلا أن الحقيقة أن التبدل لم يكن لسبب تنظيمي أو خلافات على الولاء والتمويل كما يُشاع، بل لأن محددها الأساسي هو مصلحة القضية الوطنية وليس مصلحة حماس التنظيمية الضيقة، وهو ما مكنها من مراكمة الإنجاز الوطني، وحماها من التعثر في أشواك التبرير والتفسير والدفاع، أو الولوج إلى أعماق ومضائق علاقات وتداخلات ليس من السهل عليها دفع ثمنها أو الخروج منها بسلام، ومكن قيادتها من التحرك بحرية كافية لخدمة الهدف الوطني حتى وإن شاب حركتها بعض الصعوبات ولاحقتها بعض الاتهامات، وهذا ينطبق على جميع علاقاتها سواءٌ كانت مع إيران أو قطر أو تركيا أو سوريا أو مصر أو غيرها، فهذه العلاقات لا تحيد عن هذه القاعدة ولا تتجاز هذه الحقيقة.
وفي النهاية فإن الأسباب الستة التي ذكرناها حول انتقال حركة "حماس" من لجنة مسجد إلى حكومة وبرلمان، ومن خلايا متفرقة إلى جيش منظم، ومن انتظار ذكر الاسم إلى فضائية مملوكة وإعلام عابر، لا تشكل إلا جزءاً يسيراً مما تحدث عنه غيري من الباحثين والمراقبين، مع ملاحظة أن الحقيقة التي يجب أن تبقى ماثلة أمامنا هي: "من ظن أنه يُرضي أبداً، يوشك أن لا يُرضي أحداً " .