يمر الموت كومضة سريعة العبور، لكنه يخطف الأحبة وينقلهم إلى القبور، ثم تشرق الشمس على كل شيء، ببساطتها المعهودة، وكأن الموت المفاجئ أصبح مجرد روتين ضمن منظومة الحياة في هذه البقعة المنكوبة، فالموت بكل أشكاله حاضر وبقوة، فترى نفسك وجهاً لوجه مع جنازة دون جثمان، أو أمام قبر بلا جثة !.
قصة اليوم هي قصة الشاب الصياد محمد الهسي، فربما يمر الاسم مروراً عابراً، فمن منا كان يعلم بوجود صياد بهذا الاسم، يكابد كل يوم عناء البرد وظلمة الليل وأمواج البحر ليأتي بيومية لا تتجاوز الثلاثين شيكلاً يطعم بها أطفاله الذين يشاطرونه الظلام في البيت.
خرج محمد ليلة الأربعاء الماضي، بحلم لا يتجاوز بضع سمكات يعود بها إلى الشاطئ الحزين الذي لا تتعدى أحقية الصيد فيه سبعة من الأميال، لعله يسكت أبناءه الثلاثة المنتظرين، كبيرهم ابن العاشرة وأصغرهم ابن ست سنوات، دون أن يغيب عن ذهنه المخاطر المحدقة به، فالاحتلال يقف هناك بالمرصاد، يفتي بقتل كل من تعدى، ومن لا يتعدى، فتختلط الأمواج بالدماء، والحقيقة بالكذب، وتضيع الأشلاء، ويتوقف الرزق لأيام ثم تتلاشى جثة وتتلاشى ذكرى، وتضيع الحقوق أيضاً.
اسم لن يحفظه أحد، سيضاف إلى عدد الصيادين الشهداء ممن واجهوا نفس التجربة، وانتهى بهم المطاف إلى ذات النتيجة وأيضًا طواهم النسيان وبقيت مأساة الصيادين مستمرة.
وسط ميناء غزة، حيث ترسو بعض المراكب معلنة عن حاجة ووعد لم يستطع محمد الإيفاء به، هناك وقفت العائلة، وضجت المنطقة بمكبرات الصوت، والأعلام المرفرفة، لتعلن عن جنازة للغائب هي أكثر ما يمكن أن يقدمه له أقاربه، أطفاله، وأصحابه الواقفون، على أرض ميناء غزة، يسألون السماء، ويبتهلون إلى الله، ويسلمون أمرهم بأنه لا عودة ممكنة في هذا الشتاء.
رفيق دربه جمال الهسي الذي شاركه عتمة وبرد تلك الليلة يقول واصفًا ما حدث: "كنا مركبين، يفصلنا أقل من ثلاثمائة متر، في عرض البحر، وفي مسافة تقل عن ستة أميال، كنت مع إخوتي على سطح أحد المركبين، بينما وقف محمد وحيدًا يحرس شباك صيده على سطح المركب الآخر، حينما تقدم مركب إسرائيلي ضخم فاصلًا المسافة بيننا وبين المركب الآخر، ولم نتوقع ما حدث، حينما سمعنا صوت اصطدام هز الأركان، وقنابل الضوء الإسرائيلية تطلق في السماء، لم ندرِ ما حدث، وما الداع لما فعله الاحتلال بشكل متعمد، وكأنه يتسلى على قتلنا ويستلذ بذلك!".
وتابع: "لم يكن هذا الاصطدام خطأ، فمراكبنا أيضًا كانت مضاءة بكشافات قوية، والشاهد بالعين المجردة يعرف أننا صيادون عزل، نركض وراء لقمة العيش".
وهكذا صدم المركب الإسرائيلي الضخم المركب الخشبي الصغير الذي يقف محمد على سطحه منتظرًا، فقسمه إلى نصفين، وكانت لحظات قليلة كرمشة عين حينما ابتلع البحر محمد الهسي، ولم تظهر أي آثار له، كما حدثنا جمال الهسي، مضيفاً: "بعد تراجع المركب الإسرائيلي توجهنا مسرعين نحو حطام المركب الآخر، لم نجد أي أثر لمحمد، أغراضه البسيطة التي كانت معه هي ما بقي عائماً على سطح الماء، صرخنا في وجه الاحتلال، أصواتنا بقيت معلقة بين السماء والأرض".
وعن أخبار البحث المتواصلة التي بذلتها العائلة يوضح أبو وسيم مختار العائلة: "لقد تواصلنا مع الجهات الرسمية بعد مرور أربعة وعشرين ساعة فقط، حيث إنه لم يبحث أي طرف رسمي من الجانب الفلسطيني، ولم يسمح لهم الاحتلال بالبحث".
وتابع قوله: "وهكذا بقي المصدر الوحيد لأخبار محمد هو الاحتلال الذي أبلغنا أنه بحث ولم يجد شيئًا، ولسنا متحققين أنه أصلًا قد بحث عن الجثة، وهكذا لم يبق لدينا سوى الإعلان عن وفاته"، مكملاً: "البحر لم يعده لنا، لأن الاحتلال لا يسمح لنا حتى بالبحث عن غرقانا، ووزارة الداخلية أبلغتنا أن الإمكانات لديها بسيطة حتى لو سمح الاحتلال بالدخول إلى أعماق البحر والبحث عنه".
وهكذا ذهب محمد دون اكتراث من هذا العالم الغافي، وهل سيكترث لأن صياداً من غزة ابتلعه البحر بعدما قتله الاحتلال بكل مزاجية وظلم، وحدهم أطفاله فقط سينتظرونه كل ليلة لعله يعود حاملاً في يده بعض السمك !