قائمة الموقع

مقال: (لباسُ الجوعِ والخوف يزحفُ تلقاءَ أطرافِ الحصار والحَيْف)

2010-06-17T08:33:00+03:00

بقلم : د. يونس الاسطل

 

   ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ( (النحل: 112)

 

   يكاد ينكسر الحصار المضروب على قطاع غزة منذ أكثر من أربع سنين، وقد ازداد إحكاماً قبل ثلاث سنوات سَوِيًّا، وآية انقشاعه أن هناك إصراراً مدهشاً متنامياً من جميع من شاركوا في أسطول الحرية، وتعرضوا لبطش الصهاينة وطيشهم، أن يرجعوا الكرة مثنى وثُلاث ورُباع إلى أن يزول بالكلية، وقد أدرك الأعداء المحاصِرون هذه الحقيقة، فراحوا يطرحون ما يخفف الأزمة، ويُبْقِي على الحصار، أو يقوم بتدويله؛ لعلهم بهذا يُثَبِّطون أو يُبَطِّؤون وَتِيرَتها في العواصم الأوروبية والعالمية.

   وأنا مؤمن بأننا في الربع الأخير من الساعة التي يُكْنَسُ فيها الحصار رغم أنف أربابه وأذنابه، لكن الذي أتوقعه هو أن المتاعب لن تنتهي ما بقي الاحتلال جاثماً، وما دام هناك من يرون مصلحتهم في بقائه آمناً مطمئناً ماضياً في تهويد القدس والضفة، ملغياً ثوابتنا واحداً إثر الآخر.

   وفي مقابل ذلك؛ فإن الله جل وعلا الذي يُمهل ولا يُهمل سيعاقبهم بالجوع والخوف جزاءً بما كانوا يصنعون، وقد لاحت بوادر ذلك، وما يريهم من آية إلا هي أكبر من أختها، ويخوفهم فما يزيدهم ذلك إلا طغياناً كبيراً.

   إن الحصار الذي ضربته قريش على المؤمنين قد أَدَّى إلى انقسامٍ حادٍّ بين أهل مكة، فبنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم في شِعْبِ أبي طالب، مع السابقين الأولين من المؤمنين المستضعفين في مكة، وقد وجدوا من الشدة ما اضطروا معه إلى أكل أوراق الشجر، بينما بقية بطون قريش يُجْبَى إليهم ثمرات كل شيءٍ، فهم في رغدٍ من العيش.

   ثم إنه قد كُسر الحصار بفضل الله أولاً، ثم بفعل خمسةٍ من رجال قريش، قد أخذتهم الشهامة العربية، والشِّيَمُ الإنسانية، لكن قريشاً قد أوغلتْ من بعدُ في إيذائنا، فما كان منه عليه الصلاة والسلام إلا أن دعا عليهم بسبعٍ كسبع يوسف، فأخذهم الله جل جلاله بالسنين ونقص الثمرات، وهي العقوبة التي أخذ بها آل فرعون من قبلُ؛ لمَّا أوغلوا في اضطهاد الذين استُضْعِفوا من قوم موسى، وقالوا: اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه، واستحيوا نساءهم، فدعا عليهم سيدنا موسى، وقال:

   " رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ " (يونس: 88)

   لقد سجلت كتب السيرة أن بعضاً من قريش قد اضطروا من الجوع أن يأكلوا الجيف، وقد كَلَّتْ أبصارهم حتى لَيُخَيِّلُ إلى أحدهم إذا نظر إلى الأفق الأعلى أن دخاناً ينبعث من السماء، وهذا مُدَوَّنٌ في صدر سورة الدخان:

   " فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ۩ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ " الآيتان (10، 11)

   فلما فزعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل الله تعالى أن يرفع عنهم هذا البلاء، ولن يعودوا إلى التجهم لأصحابه، استجاب له ربُّه، وقال:

   " إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ۩ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ " الآيتان (15، 16)

   وما أشبه ذلك بما فعله الفراعنة بعد أن عُوقبوا زيادةً على السنين، ونقص الثمرات، بالطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، فقد فزعوا إلى سيدنا موسى، وطلبوا أن يدعو ربَّه برفع تلك الآيات السبع، وأنه إذا فعل فلسوف يؤمنون به، ويطلقون سراح بني إسرائيل؛ ليذهبوا معه حيث يشاؤون، فماذا كان من شأنهم بعد أن ارتفع عنهم الرجز؟ قال تعالى:

   " فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ۩ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ " الأعراف (135، 136)

   هل كانت تلك المرة هي الوحيدةَ التي عاقب ربُّنا جلَّ وعلا فيها قريشاً بالجوع؟.

   إن مكة قد أصبحت حرماً آمناً يُجْبَى إليه ثمرات كل شيءٍ، بعد أن كانت بوادٍ غير ذي زرع؛ بفضل دعاء سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، يوم أسكن زوجه هاجر، وولدها إسماعيل، عند بيت الله المحرَّم، لكن أبا جهل وناديه، لمَّا بَدَّلُوا نعمة الله كفراً أَحَلُّوا قومهم دار البوار؛ إذْ إنَّ المؤمنين لمَّا انفصلوا عن مكة بالهجرة، وقامت لهم دولة وشوكة بالمدينة، وفي حماية الأنصار، صاروا يعترضون طريق القوافل القادمة من مكة، أو الآيبة إليها، فإذا ظفروا بها قتلوا رجالها، وغنموا أموالها، فأذاق الله جل جلاله بذلك قريشاً لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون من الكفر، وفتنة الناس عن دينهم، وهو ما نصت عليه آية المقال.

   وقد عَبَّر هنا باللباس للإشارة إلى عدم الانفكاك، فهو يحيط بهم، فلا يتحركون إلا فيه، وهكذا قد أناخ الجوع والخوف بساحتهم، وأرادوا بالزحف يوم بدر أن يقتلعوا جذوره، فأخذتهم البطشة الكبرى، وكان عذابهم فيه لزاماً.

   ثم إن ثمامة بن أُثالٍ، وهو والٍ على اليمن، كان في طريقه إلى العمرة، فوقع في أَسْرِ الصحابة، وكان من عواقبها أن أسلم لله رب العالمين، وأصرَّ على أداء العمرة، فلما نالت قريش منه أقسم أَلاَّ تصلهم الحنطة من اليمن حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وكانت مِيرَتُهُم من اليمن، فلما جاعوا بعثوا يناشدون النبي عليه الصلاة والسلام أن يأذن لثمامة بن أثال أن يعاود تصدير البُرِّ لهم، ففعل.

    فإذا الْتفتنا إلى واقعنا الذي يتغير اليوم لصالح أمة الإسلام، والشعب الفلسطيني، وبالأخص قطاع غزة؛ لدرجة أن تقترح عجوز أمريكية مخضرمة على اليهود أن يعودوا من حيث أتوا من بلدان أوروبا وغيرها؛ إدراكاً منها أن الاحتلال إلى زوال، وأن على اليهود أن يأخذوا أمرهم من قبل أن تصيبهم دائرة، ولاتَ حين مناص.

   إن أمريكا قد تَدَنَّى اقتصادها إلى ما دون النصف، وإن البترول المتدفق من حقول المكسيك يُطَوِّقُ سواحل بعض ولاياتها، ويورثها خسائر لُبَداً، ولا أمل في السيطرة عليه قبل عدة أشهر، فضلاً عن نزيف العمليات اليومية التي تضرب قواتِها وأحلافَها في كلٍّ من العراق وأفغانستان، وما هم بمعجزين في الأرض.

   وأما الصهاينة فإن عورتهم قد انكشفت أمام العالم كله، وبالأخص أمام شعوب الدول الأربعين التي شاركت في أسطول كسر الحصار عن القطاع، ومن قبلها فقد تورطوا مع ثمانٍ وعشرين دولة، كانوا قد زَوَّروا جوازات سفرها؛ لاغتيال الشهيد محمود المبحوح.

   إن كلَّ ذلك سينعكس سلباً على اقتصاد الصهاينة، من خلال مقاطعة الشركات، والبضائع اليهودية، كما أن الاقتصاد الأمريكي لن يكون قادراً، بعد تَقَزُّم الإمبراطورية الأمريكية، على الاستمرار في الدعم غير المحدود للصهاينة، وبالأخص عندما يصبح هذا الكيان عاجزاً عن القيام بوظيفته في النيابة عن الأمريكان وعبدة الصليب في إخضاع المنطقة، والحيلولة دون نهضتها.

   فإذا جئنا إلى مصر وجدناها تنتظر أياماً عجافاً من الجفاف، وهبوط مستوى النيل بشكل كبير، ذلك أنها تتعرض اليوم لحصارٍ مائيٍّ في منابع النيل، فقد أَغْرَى الصهاينة دول المنبع بإقامة المزيد من السدود على مياه النيل، وهو ما يتسبب في زيادة المعاناة للشعب المصري الذي يعتمد على مياه النيل بنسبة تزيد على تسعين بالمائة حتى في مياه الشرب.

   ولعل أكثر المرشحين للجوع العاجل هم زبائن السلطة في رام الله؛ حيث إنهم اليوم قد انحازوا للعدو بالكلية، والصهاينة لا يحترمون عملاءهم إلا فترة حاجتهم إليهم، وقيامهم بتلك الحاجات، فإذا ثبت عجزهم تَحَوَّلوا عنهم، كأن لم تكن بينهم مودة في يوم من الأيام، وإن السلطة تتراجع قبضتها على أهل الضفة يوماً بعد يوم، ولولا حماية القوات الصهيونية لهم لانْقَضَّ الناس عليهم، وأنهوا وجودهم، وعندئذٍ يتوقف الدعم والرواتب، ويضطرون إلى رَعْيِ الهشيم، وما ذلك على الله بعزيز، وعسى أن يكون قريباً.

 

 

 

1

اخبار ذات صلة