شكل إجراء الانتخابات التشريعية الفلسطينية الثانية عام 2006 مدخلاً أساسياً لعملية التحول الديمقراطي الفلسطيني، وقد جرت الانتخابات بناءً على اتفاق القاهرة 2005 باشتراك أغلب الفصائل وبمشاركة شعبية واسعة، مما شكل فاتحة لعهـد ديمقراطي جديد وساهم في رفع مستوى التثقيف والوعي السياسي وأتاح انتقال السلطة بشكل سلمي، وقد أحدثت مشاركة حماس ومن ثم فوزها وتشكيلها الحكومة، تحولاً في مسار العملية الديمقراطية وكان له آثار كبيرة على واقع القضية الفلسطينية وعلى مستقبلها وعلى العلاقات الفلسطينية الداخلية وعلاقة الآخرين بها، إذ انتقلت حماس بعد الانتخابات وبشكل فجائي من مقعد المعارضة إلى مقعد السلطة، الأمر الذي ألزمها بتولي المسؤولية الكاملـة عن كافة القضايا المالية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية والإدارية، وأصبحت حماس مطالبة بأن يكون لها خطاب سياسي ومواقف محددة تجاه الاحتلال وعملية السلام والمقاومة والديمقراطية والتداول السـلمي والشراكة السياسية وفصائل العمل الوطني وقوى المجتمع المدني، وطولبت بتوضـيح سياسـتها فـي إدارة المؤسسـات الفلسطينية، وكيف ستوظفها من أجل إحداث التغيير والإصلاح الذي تبنّته، وكيف ستدير علاقتها مـع مؤسسـة الرئاسـة ومنظمـة التحريـر الفلسطينية -التي لا وجود لحماس فيهما- وكيف ستدير العلاقات الدولية التي تقيمها السلطة الوطنية مع مختلف دول العالم بشكل ينسجم مع سياسات السلطة الفلسطينية والتزاماتها وبما لا يتعارض مع الاتفاقات الموقعة، وتزامن ذلك مع فرض شروط الرباعية الدولية التي اعتُبرت أساساً لقبول حماس في المشهد السياسـي في المنطقة، وطولبت حماس بضرورة تنفيذها مقابل رفع الحصـار عنها وعن الشعب الفلسطيني، الأمر الذي أدخل حماس في علاقات جدلية وصراعات متشابكة حول مختلف القضايا داخلياً وعربياً ودولياً، وتسبب في فـرض الحصـار بجميع أشكاله وإلى تعاقب ثلاث حروب متتالية على قطاع غزة وإلى استمرار تـأزم الوضع الفلسطيني الداخلي والانقسام السياسي والجغرافي وتعطيل المجلس التشريعي وعدم تفعيل منظمة التحرير.
يهدف هذا السرد السريع لأحداث العقد الماضي الذي أعقب دخول حماس في النظام السياسي الفلسطيني، لتحديد مواقف حماس من القضايا التي ذُكرت ولقياس مدى التغير -إن حدث- ومعرفة الثابت والمتغير منها، وهل كانت الوضعية التواصلية المتسلسلة في مواقف حماس موجودة وحاضرة وتمكنت من مواكبة التغيرات أم أنها بقيت كما هي، وخاصة أن حماس باتت تتعامـل مـع قضـايا الشـعب الفلسـطينية انطلاقاً من موقع السلطة والمسؤولية وليس من موقع المعارضة، فحماس تبدأ فعلياً عقدها الثاني بعد أيام وما زالت كثير من القضايا التي واجهتها قائمة وما زال الجميع يترقب موقفها منها مما استدعى البحث والتحليل علنا نقف على الحقيقة ونجلّيها للقاريء الكريم.
ونبدأ بمقاومة الاحتلال التي يجد المراقب أن موقف حماس منها شهد ثباتاً في اتجاه اعتبارها استراتيجية وطنية تُرسم من خلالها معالم العلاقة مع الاحتلال، وأن توقف المقاومة لا يعني أن حماس أوقفته وإنمـا هـي مرحلة من مراحل الإعداد والاستعداد لجولات قادمة، والدليل على ثبات الموقف هو إصرار حماس على بناء قوتها العسكرية وتطوير قدراتها ومضاعفة أنفاقها والإنفاق على تصنيعها واستمرار إعلامها في تمجيدها والدعوة لها. أما التغير الجزئي الذي طرأ على مواقف حماس في موضوع المقاومة فهو باتجاه تحديد أدواتها وجغرافيتها، وهو ما عبرت عنه "وثيقة الأسرى أو الوفاق الوطني" التي صاغها قادة فصائل العمل الوطني الفلسـطيني في سجون الاحتلال وعُدِّلت لتصبح آلية وطنيـة متفـق عليهـا لتقريب وجهات النظر حول مقاومة الاحتلال، وقد نصت الوثيقة على حق الشعب الفلسطيني في المقاومـة بمختلف الوسائل وتركيزها في الأراضي المحتلة عام1967م".
أما موقف حماس من العمل السياسي والتفاوضي والدبلوماسي فقد شهد ثباتاً وتغيراً في نفس الوقت، أما التغير فقد نصت الوثيقة عليه بقولها: "أن إدارة المفاوضات هي من صلاحية منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، على قاعدة التمسك بالأهـداف الوطنية المُفضية لتحرير الأرض وإنجاز الحق في الحرية والعودة والاستقلال وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة على جميع الأراضي المحتلة عام 1967 وعاصمتها مدينة القدس الشريف، وضمان حق العودة للاجئين وتحريـر جميـع الأسـرى" ما يعني أن تغيراً جزئياً طرأ على موقف حماس من العملية السلمية، إذ تبنت بشكل واضح -بموجب وثيقة وطنية وليس من خلال تصريحات قادتها فقط- هدفاً مرحلياً تمثل بقبولها بدولة على حدود عام سبعة وستين، شريطة أن "يكون التفاوض وفقاً لضوابط وقيود توضع على مسار التفاوض، وأن يكون وفق أجندة وطنية متفق عليها، وأن تعرض نتيجته على المجلس الوطني أو للاستفتاء العام، وعدم الاعتراف بدولة الاحتلال مستندة في ذلك إلى حق شعب فلسطين التاريخي في أرض الآباء والأجداد، وإلـى ميثـاق الأمم المتحدة، والقانون الدولي، وما كفلته الشرعية الدولية، بما لا ينتقص من حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية".
أما القضية الثالثة والأخيرة فهي الشراكة السياسية والوحدة الوطنية، إذ شكلت حماس عاملاً مؤثراً في ساحة العمل الوطني وفي القرار السياسي وفي بنية النظام السياسي الفلسطيني سواءً قبل دخوله أو بعده، وقد حرصت حماس على بناء علاقة متوازنة مع منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل الوطنية والإسلامية بهدف الوصول إلـى رؤيـة سياسية تشكل قاسما مشتركا بينها جميعاً، وبما يعزز الديمقراطية ويبني قواعـدها التي شابها بعض العوار، ويُشرك قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني في صناعة القرار الوطني، استناداً إلى القاعدة التي آمنـت بهـا حماس والشعار الذي رفعته "شركاء في الدم شركاء في القرار"، إذ بنت الحركة مواقفها من الوحدة الوطنية والشراكة السياسية على أسس واقعية فكراً وممارسة بهدف صناعة قرارٍ وطني فلسطيني مشترك، مستنده في ذلك إلى حق الجميع في صياغة القرار الفلسطيني، معتبرة أن اللحظات التي شهدت خلافات وصراعات داخلية، هـي لحظات طارئة، بل إن الأحداث والتفاعلات السلبية (التي تسعى حماس لتلافيها دائماً) هي التي أدت إلى تطوير الأزمات التي شهدتها العلاقات الوطنية الداخلية بحيث يبدو وكأنها دائمة، إلا أن المتتبع لمواقف حماس من الوحـدة الوطنيـة والشـراكة السياسية وتوقيعها على كل الاتفاقيات الوطنية وتنازلها عن الحكومة لصالح حكومة الوفاق الوطني ودعوة الحكومة قبل أيام لاستلام جميع المؤسسات والوزارات في غزة ينفي هذه التهمة عنها، ويؤكد أن الحركة تستند في علاقاتها الداخلية إلى تراثها الأصيل في العمل السياسي خلال عمرها الزمني وتجربتها السياسية المباشرة، وأن خطاب الوحدة الوطنية لديها يبدأ من الحفاظ علـى صلاح الفرد وأهمية الأسرة وزيادة التماسك في المجتمع، وينتهي ببرنامج وطني موحدة تجمع عليه فصائل العمل الوطني الفلسطيني، وشاركت غيرها في تطوير مفهوم الوحدة الوطنية إلى برنامج يجمع كل فصائل العمل الوطني تحت سقف الحوارات التي وفرت لها حماس الدعم الكبير وشاركت فيها دون تردد.
وفي النهاية ومع نهاية عقد وبداية آخر، فلم تضق آفاق حماس يوماً في بناء مواقفها من مختلف القضايا لتنحصر في مصلحتها التنظيمية أو الفئوية كما يُقال، وإنما اتسعت لتَطال دراسة الآثار التي ستتركها مواقفها علـى القضـية الفلسطينية بأبعادها الوطنية والعقائدية والقومية والسياسية والثقافية والقانونية.