رشا فرحات
مدت رأسها إلى الداخل أكثر، قدماها عاريتان، في جو يعصف بشعرها، لا ترتدي معطفا، ولا جوارب، حذائها يعري نصف القدم، ولا يعري قلوب الواقفين، في يدها بسكوتتين، تعرض بيعهما على كل مار بجانبها، السيارات الفارهة ترفض الاستجابة لطرقاتها على النافذة، وذلك الذي يحمل ميكرفونا، يشد معطفه على صدره، يرسل وعوده لأطفال الخيام، ويعدهم بالمزيد من الاغطية هذا الشتاء، وربما استطاع أن يغطي نفقة الأسقف الاسبستية، فيكون لهم شتاء أكثر دفئا مما يحلمون، أجل هكذا قال، ألا تذكرين يا صديقة؟!
هل تذكرين يا صديقة، تلك الطفلة، في ذات شتاء قارس، وحينما كنا نحضر مؤتمر الطفولة الخامس عشر، تلك الطفلة التي كانت ترتدي بيجامة قطنية خفيفة تداخلت ألوانها فبدت خليطا بين الأزرق والأخضر، بوجه صفعته برودة الجو في الخارج، فبدا بلون ملابسها، هي ذاتها رايتها اليوم بعد عام كامل، في نفس المكان والفكرة والزمان، نفس الملابس، نفس النظرة.
تسللت برأسها من باب الفندق، ترسم على وجهها ابتسامة بلهاء، وكأنه عثرت في وجوهنا على كنز آخر، نظرت إلى المتابعين بمعاطفهم الدافئة، في يد كل منهم ساعة يعبر بالنظر إلها عن ضجره من حديث المتحدثين، على المنصة العالية، رجل في منتصف العمر، ابتسم ابتسامة غريبة، حدق في وجه الطفلة الواقفة، ابتسامته لا تشبه ابتسامة ذلك الوجه المرتجف الذي يختلس نظرة من باب الفندق الانيق، شكلها، هندامها، شوه الصورة المتكاملة فبدت وكأنها النقطة السوداء الوحيدة في ورقة ناصعة البياض.
حدقت أنا مثلك يا صديقة، في وجه الطفلة، شعرت للحظة بالضياع، وجوه الفقراء غريبة ، اشتبه عليّ الأمر، هل كان ذلك وجها عابسا أم مبتسما، لم أفرق، تحتارين وأنت تفسرين معالم وجه الطفلة الصلب، خليط بين الوجع والازدراء، البكاء والسخرية، الإيمان والكفر، وتتساءلين، كم يد أو قدم نحتت تقاسيم هذه السحنة، الهواء، الشمس، الفقر، المدرسة، الجيران، سائق الباص، بائع الحلوى، حتى الواقفين على منصة هذا المؤتمر، جميعهم اشتركوا في نحت هذا الوجه، أخذوا دورا في رص المعالم.
وأكياس المونة التي تلقفتها يد أمها بشوق قبل أسبوع قذفت الوجه بكرة من الذل، فلطخت آخر معالم الفرح، لذلك لا نستطيع يا صديقة ان نفرق أحزنا كان في ذلك الوجه أم فرح.
أتذكرين، كانت تمسك دمية حمراء اللون، دون اكتراث، أرجح أن أحدهم ألقاها في طريقها لتنحت حصتها أيضا في وجه الطفله، الدمية زادت المشهد بشاعة، فاللون الأحمر في الدمى أشبه بجسد طفل ملطخ بالدماء، وهذه الطفلة تخطت كثيرا أزمنة الدمى، يبدو ذلك من مسكتها لها، لم تلقي عليها أي نظرة فرح، احتفظت بها، ربما حولتها أمها لشيء يمكن أن يحتاجه الفقراء، شيء آخر على قدر من الأهمية، شيء غير الدمى!
مدت رأسها أكثر من باب الفندق، يدها مرتجفة، لا تكترث لحركاتها كثيرا، ولا للأداب العامة، ولا إلى أناقتها، اخبرتك بالأمس، كيف أصبح أطفالنا أكثر اهتماما بأناقتهم، أطفال الفقراء لا يهتمون لذلك، بطونهم أولى من مناظرنا.
البرد القارص أمام باب الفندق لا يسمح لأحد بالوقوف في ذات البقعه، تختلس نظرة مستمعة بانبهار واضح، راسها يدور دورة كاملة، مع كل خرج من الباب، تركض وراءه، تعرض بسكوتتيها، يرفض هو، تعود إلى مكانها، تمد رأسها من جديد .
اغلق الباب الكهربائي زجاجه على وجهها، قفزت من مكاني بسرعة في محاولة لإدراك الموقف، مددت يدي واعطيتها نقودا كانت في جيبي، دموعها تساقطت سريعاً، اخذت المال، خبأته في جيبها دون اكتراث، لم أرى في وجهها أيضا أي معالم للفرح، دموعها تساقطت سريعاً، لا شيء يساوي دمعة طفل، لا اعتقد انها نزلت من ألم تسببه إغلاق باب زجاجي على الخد، أوجاع الفقراء أكبر .
عدت أنا ايضا إلى مقعدي، وكتبت في دفتري أرقاماً، سأنساها فورا حينما أعود إلى اطفالي في المساء، أما هي فستتحول إلى رقم، ربما سندونه في اوراق الطفولة، العام القادم.