تؤرق مشكلة المخدرات المجتمع الفلسطيني في ظل إغراق قطاع غزة بهذه الآفة التي تستهدف فئة الشباب، وعلى الرغم من الإجراءات المعقدة التي تبذلها الأجهزة المختصة للوصول إلى الجناة، إلا أن سبل النجاة تمتد إليهم من خلال أحكام مخففة وإجراءات تنفيذية ترى فيها الجهات المختصة تهاونًا في ردع الجناة ومواجهتهم.
وكان قانون المخدرات المصري رقم (19) لسنة 1962 هو القانون الساري المفعول بشأن مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية بناءً على قرار مجلس الوزراء الفلسطيني صدر 2009م الذي استبدل القانون العسكري الإسرائيلي بشأن المخدرات رقم 437 لعام 1972 بالقانون المصري.
وأصدر المجلس التشريعي عام 2013م، قانونا جديدا خاصًا لمكافحة المخدرات، خوّل بموجبه القضاة بإصدار أحكام مشددة، تصل عقوبتها للإعدام والمؤبدات، وبدأ تنفيذه عمليا منذ عامين تقريبًا، وصدرت عقوبات وصلت حتى 15 عامًا بحق أحد الجناة.
ويدور الحديث بين المواطنين أن تجار المخدرات باتوا يؤمنون مبالغ مالية قبل أي عملية تهريب وتكون جاهزة في حال القبض عليهم كي يدفعوها كفالة مالية مقابل الافراج عنهم.
ورغم صدور القرار إلّا أن هناك تخفيفا في الإجراءات القضائية بحق الجناة، وجرى الافراج عن أشخاص وصفوا بأنهم "خطيرين"، وفق مدير الإدارة العامة لمكافحة المخدرات، إضافة لمنح اجازات بيتية من طرف وزارة الداخلية لمدانين لأسباب غير مبررة، وفق النيابة العامة.
في المقابل تلقى جهات قضائية باللائمة على مكافحة المخدرات، بوجود خلل فني في إجراءات الحرز والقبض، وهو ما يفشل القضية وينتهي ببراءة المدانين.
ما بين الأجهزة التنفيذية والنيابة والقضاء، تنقلت الرسالة في ملف إجراءات مقاضاة تجار ومدمني المخدرات.
مكافحة المخدرات: راسلنا القضاء لاستئناف قضايا إفراج بحق "أشخاص خطرين
وتنبش "الرسالة نت" في هذا التحقيق عن الحلقات المفقودة في الإجراءات القضائية والتنفيذية المتعلقة بمكافحة ترويج المخدرات، والوصول إلى ثغرات ترى الجهات المختصة أنها تشكل خطورة في مواجهتها.
ويؤكد العقيد أحمد القدرة مدير الإدارة العامة لمكافحة المخدرات، أن هذه الآفة تشكل مشكلة وليست ظاهرة، مشيرا إلى أن نسبة الاتجار أقل بكثير من التعاطي، وفق الإحصاءات المتوفرة لهم، وهو ما تؤكده وزارة الداخلية والجهات المختصة، موضحة أن قضية المخدرات لم تصل لتكون ظاهرة، مفندة الحديث عن وجود أعداد كبيرة من المتورطين في هذه الجريمة.
وأكدّ إياد البزم المتحدث باسم الداخلية، وجود جهد حثيث تبذله الوزارة من أجل تأمين المجتمع من المخدرات، لا سيما وأن هناك من يسعى لإغراق غزة بها، "وهذا ما تبيّن من خلال الضبط الأخير الذي قامت بها مكافحة شرطة المباحث سواء نهاية العام الماضي أو بداية العام الجاري".
وقال: "هناك جهات تسعى لإدخال المخدرات الى غزة، ونعمل بكل جهد وقوة من أجل محاربة ذلك، رغم نقص الإمكانات المتاحة لمحاربة هذه الآفة التي تشكل تهديدًا على المجتمع".
الداخلية: جزء من قضايا المخدرات سيحال للقضاء العسكر
وبشأن احراز كميات كبيرة من المخدرات مؤخرًا، أوضح بأن هذه المسألة لا تشكل مؤشرًا على ارتفاع عدد المتعاطين في المجتمع الفلسطيني بغزة الذي يعتبر بغالبيته مجتمعا محافظًا، حتى وان وجد بعض المتعاطين".
وأضاف البزم "عدد المتعاطين ليس كبيرا كما ادعى البعض بإشاعة ارقام نسبوها زورًا وبهتانا لمؤسسات دولية، لأجل الإساءة لصورة غزة". وأوضح أن ارتفاع ضبط الكميات مؤخرًا، يأتي "كإظهار للجهد الكبير الذي تبذله بعض الجهات من أجل ادخال هذه الكميات لغزة، ويعكس ايضًا الجهد الكبير الذي تبذله الشرطة لمحاربة هذه الآفة الخطرة".
وتابع: "طالبنا المؤسسات التشريعية بسن قوانين فعالة وجديدة لمواجهة مروجي المخدرات وتجارها، من أجل حماية شعبنا وسنتخذ كل الإجراءات التي من شأنها حماية شعبنا".
بدوره، يوضح رئيس المجلس الأعلى للقضاء عبد الرؤوف الحلبي، أن قضايا المخدرات في غزة، ورغم كل التهويل الإعلامي، لم تصل لظاهرة كبيرة، خاصة في قضايا التعاطي، التي تشكل في اغلبها قضايا بسيطة مقارنة بقضايا الاتجار التي تشكل خطرًا على المجتمع.
القانون المعدل
وعلى الرغم من صدور قانون خاص بمكافحة المخدرات عام 2013م، فقد أكدّ المستشار في المجلس التشريعي عبد الله أبو لولي، وجود حالة نقص في تنفيذ القانون الخاص بالمخدرات المقر عام 2013م، مشيرا الى وجود جوانب لم تطبق من القضاء تحديدا عقوبة الإعدام التي ينص عليها القانون، إضافة لاستمرار سياسة "الكفالة" المالية لبعض المدانين.
ويتدرج القانون رقم 7/ 2013م، في العقوبة للوصول الى احكام مشددة تصل للمؤبد والاعدام، ويجرم المؤثرات العقلية ويعتبرها جزءًا من المخدرات.
ويشير أبو لولي خلال حديثه "للرسالة نت" إلى أن "القانون لا ينفذ بشكل دقيق فيما يتعلق بأدلة حيازة المخدرات، فلا يزال اعتماد دليل البحث قائما على الحيازة فقط، مع أن القانون الجديد أتاح دليل الاثبات والشهود والاعتراف والقرائن".
التشريعي: نقص في تنفيذ القانون الخاص بالمخدرا
وأوضح أن الكفالة لا يمكن انكارها في القانون، لكن" عندما يتم الحديث عن تاجر محترف ومتمرس الأصل ان يواجه بعقوبة السجن وليس الكفالة".
وبيّن أبو لولي أن عملية الكفالة تضعف القضية وتجعلها غير خاضعة لكافة احكام القانون، وتفتح باب التهاون بقوة الردع، مشيرا الى ان عملية الكفالة تتم باستشارة القاضي لممثل الادعاء العام والأخير يقدر بحسب حجم الجريمة.
وأكدّ أن الجرائم التي تختص بأمن الدولة من بينها جرائم التهريب التي تحدث على حدود القطاع، تم احالتها للقضاء العسكري، وذلك لضمان السرعة في الإنجاز وعدم الضغط على المحاكم.
أحكام قضائية
مدير الإدارة العامة لمكافحة المخدرات في الشرطة الفلسطينية العقيد أحمد القدرة، كشف بدوره لـ"الرسالة نت" عن تمكن الشرطة من احراز كميات كبيرة مؤخرًا، كانت معدة للتخزين داخل القطاع، واستهلاكها على مدار أشهر طويلة.
وقال القدرة: "إن الشرطة تبذل جهدًا مضاعفًا في عملية إلقاء القبض على مروجي وتجار المخدرات، ولذلك يجب أن يكون هناك زيادة في تشديد الأحكام تجاه التجار والمروجين، واعتبار المتعاطين مرضى يجب إخضاعهم لمراكز الاستشفاء من أجل الفطام من هذه الآفة".
وأكدّ أن الاحكام بحاجة لمزيد من الردع والتشديد، خاصة أن القانون الجديد يعطي القضاة صلاحيات في اصدار احكام مشددة، كاشفًا عن وجود جرائم هي بنظر المكافحة تستحق عقوبة الإعدام والمؤبدات.
وبيّن القدرة أن المكافحة وجهت مكاتبات للنيابة العامة، تحثها فيها على استئناف أحكام إفراج صدرت بحق أشخاص هم بوجهة نظر المكافحة من "المروجين الخطيرين".
النيابة العامة استعرضت بدورها مواطن الخلل في مواجهة الجريمة، مؤكدة في الوقت ذاته التزام النيابة بالقانون الخاص للمخدرات عام 2013، واعتمادها على كافة القرائن والأدلة ومحاضر المباحث، مستدركة أن الازمة تكمن في غياب رؤية استراتيجية كاملة لمعالجة قضية المخدرات.
النيابة: الاجازات البيتية تمنح بشكل غير مبرر في بعض الأحيا
وقال النائب العام المستشار اسماعيل جبر لـ"الرسالة نت"، إن دور النيابة يقتصر على اجراء التحقيق الابتدائي وتوجيه التهمة، أما اصدار الحكم فهو من اختصاص القضاء، موضحًا أن الإجراءات القضائية تشمل في بعض الأحيان عمليات افراج عن سجناء، لأسباب تتعلق بإجراءات التحقيق.
وأكدّ وجود قرار لدى النيابة باستئناف كافة قرارات الافراج عن المتهمين في قضايا الاتجار، وتستعمل حقها لدى جهات قضائية أعلى درجة، "وفي كثير من القضايا يتم الاستجابة لها وتعديل الإجراءات".
وأوضح أن الاستئناف يتم لحالات تشعر ان احكام الردع فيها غير كافية، ولا تناسب خطورة الواقعة والكميات المضبوطة، مشيرا الى انه يجرى العمل في بعض القضايا على استئناف بعض الاحكام التي لا تحقق الردع.
وأشار الى ان هناك تعليمات لدى وكلاء النيابة المترافعين نحو طلب إنزال عقوبة الإعدام بحق التجار في حالة العودة وتكرار الجريمة، وفقًا لقانون عام 2013م.
الإجازات البيتية
ويكشف المستشار جبر أنه جرى منح اجازات بيتية لبعض المدانين بشكل غير مبرر في بعض الأحيان".
وقال جبر إن "عدم فصل النزلاء وفق التهم المنسوبة لكل فئة منهم، يدفع المتورطين في قضايا بسيطة لتعلم جرائم أخرى من قبيل المخدرات وغيرها".
وهنا ردّ العقيد فؤاد أبو بطيحان مدير عام مديرية التأهيل والإصلاح في وزارة الداخلية، بأن هذه الاجازات تمنح وفق الأصول، لأشخاص محددين، ولا يكونوا من التجار او المروجين.
القضاء: نتعامل مع الجناة كل حالة وفق ظروفه
وتمنح المادة 57 لقانون مراكز التأهيل، وزير العدل صلاحية منح اجازات بيتية للموقوفين بناء على حسن السير والسلوك.
وعزا أبو بطيحان هذه المسألة، لوجود اكتظاظ كبير داخل السجون ومراكز التوقيف، مستدركًا في الوقت ذاته " أن هذا الاكتظاظ ليس مبررًا لتخفيف الاحكام القضائية بحق الجناة المتورطين في قضايا الاتجار".
وهنا يؤكد العقيد أحمد القدرة أن مكافحة المخدرات تتفهم إجراءات القضاء ووجود ازمة اكتظاظ داخل السجون، "لكن هذا لا يشكل مبررًا للإفراج بكفالة مالية خاصة المروجين وتجار المخدرات، لأن اعدادهم في الأصل قليلة مقارنة بالمتعاطين".
لكن المجلس الأعلى للقضاء، فسرّ صدور بعض الاحكام المخففة والافراج بكفالة مالية عن بعض المتعاطين، لأسباب خاصة بكل حالة.
وقال الدكتور عبد الرؤوف الحلبي رئيس مجلس القضاء الأعلى، إن "القضاء ينظر لكل قضية بشكل مختلف عن الأخرى، وهناك اعتبارات تؤخذ في الحسبان لكل حالة من حيث التشديد او التخفيف في العقوبة، ومن تتكرر جريمته تكون عقوبته أشد".
وأضاف "هناك احكام مشددة اقرها القانون الخاص للمخدرات عام 2013، تصل للاعدام، ولكن لهذه اللحظة لم تصل الحالات الموجودة لهذه العقوبة". وتابع أن العقوبات المطلوبة يجب أن تكون رادعة.
وحول الافراج عن بعض الحالات، بيّن أن هناك خللا يكون في الإجراءات المتعلقة بعملية الضبط والاحراز، غير أن العميد القدرة قال إنه لم يصل للمكافحة أي رسائل خلال الفترة الأخيرة تفيد بوجود خلل في الإجراءات التي تقوم بها الشرطة في عمليات ضبطها للمواد المخدرة.
القضاء العسكري
وأمام الخطورة التي تشكلها المخدرات، كشف اياد البزم أن جزءًا من قضايا المخدرات ستحال للقضاء العسكري، لا سيما قضايا الترويج داخل البلد"، مؤكدًا أن هذه الجرائم تمس امن القطاع، وستحال للقضاء من أجل ضبطها.
إحالة الجناة للمحاكم العسكرية اثار جدلا لدى مؤسسات قانونية، ترى في هذه الخطوة اعتداءً على حق دستوري وقانوني يقضي بعرض المدان المدني امام قضائه الطبيعي، الا ان المستشار بالتشريعي أبو لولي يؤكد أن الخطوة مهمة لسرعة الإنجاز في القضايا، إضافة الى ان هذه الجرائم تعد مساسا بالأمن القومي.
غياب الاستراتيجية
وتتفق الجهات المختصة على غياب استراتيجية شاملة تعتمد على كافة الحلول لمواجهة ازمة المخدرات.
فمدير المكافحة أحمد القدرة، يؤكد ضعف منظومة المراكز الصحية المعالجة لمدمني ومتعاطي المواد المخدرة، والذين يحتاجون لمرحلة من الاستشفاء والفطام، رغم الجهد الذي تبذله الجهات المختصة والمجتمع المدني.
من جهته، يؤكد بكر التركماني مدير وحدة الشكاوي في الهيئة المستقلة لحقوق الانسان، غياب استراتيجية العلاج الجذري لهذه الظاهرة، فمع ضرورة تشديد العقوبات خاصة بحق التجار والمروجين الكبار، هناك حاجة لعمل متكامل لحل الازمة، مشيرا الى ان القانون ليس الفيصل الوحيد بل هو احدى الأدوات التي ينبغي أن تواجه بها الازمة، إلى جانب توعية دقيقة بمخاطر هذه الافة.
وفي المقابل تصطدم الجهات المعنية بأزمات ومعيقات تحول دون اجراء مهامها، من بينها ما ذكره النائب العام إسماعيل جبر، حول ضعف الامكانيات للمعامل الجنائية في فلسطين التي قصفت عام 2008م، وهي مهمة لتقليل الاعتماد على الاعترافات، التي باتت أدنى مراتب الأدلة في الفقه الجنائي. وأوضح أن النيابة تفتقر لعديد الوسائل التكنولوجية التي تساعدها في البحث عن الأدلة الجنائية.
الهيئة المستقلة: ظاهرة الإدمان بحاجة لعلاج شامل
أمّا التركماني فلفت إلى ضرورة تمكين الأجهزة المختصة وتدريبها على الأدوات الحديثة التي تساعدهم في الكشف عن الجرائم واتباع الأصول والإجراءات القانونية في الاعتقال، لتجنب الثغرات التي قد تؤدي لإفلات المجرمين من العقوبة.
بدورها، تؤكد إدارة مكافحة المخدرات أن قضية المخدرات هي مشكلة في غزة وليست ظاهرة، والامر يحتاج فقط لمزيد من التدريب والدعم الفني من أجل السيطرة على الحدود، موضحًا ان اغلب المروجين والتجار يشكلون شبكات قليلة هدفها التربح المادي واضرار المجتمع.