جاءت الرّواية متأخّرةً بعد أنْ كان نهر الشّعر قد سَقَى الصّحراء، وحوّلها إلى جِناتٍ وارفة، تُنبِتُ ورودًا لا تذبل على تعاقب الأزمنة والدّهور. كان نهر الشّعر قد استحال إلى أسطورة، أو هكذا ظُنّ؛ أسطورة صعبة المُحاكاة مهما كانت المحاولات البائسة الّتي تُبذَل في سبيل ذلك، أسطورة قادرة أنْ تعيش الإنسان وما بعدَ الإنسان، بل ما بعد الإرث الحضاريّ الخالد للبشريّة، حتّى ذلك النّثر الجاحظيّ أو المُقفّعي أو الرّافعيّ وهو في أوج ارتقائه وتمدّده مع كلّ محاولاته أنْ يُطامن آلهةَ الفنّ في سمائها البعيدة لم يستطعْ أنْ يهزمَ الشّعر، ولا أنْ يحلّ محلّه، واعترفَ بذلك التوحيديّ في ليلته الخامسة والعشرين من "الإمتاع والمؤانسة".
فما الّذي حدث في زماننا؟! ما الّذي جعل للرّواية كلّ هذا الحضور الطّاغي، وجعل الشّعر يتّخذ له على خجلٍ زاويةً بعيدةً يقتات على ما تبقّى له من حضور؛ حضورٍ مُتواضعٍ يُولّي -ربّما- مع آخر العمالقة الّذين حملوا روحه كالجواهريّ وعبد الرزّاق عبد الواحد وغيرهما؟! فهل رضي الشّعر بما أصابَه مِن فقدٍ وإعراض؟ هل اكتفى بدورٍ ثانويّ هامشيّ أمام زحفٍ لا يُمكن إيقافه من الرّواية؟ هل هو قادرٌ على تجاوز أزمة الإهمال والنّسيان فيلعقَ جِراحه ريثما تشفى ثُمّ ينهض من جديد؟ أم هل استسلم لتلك الجراح النّازفة وأيقنَ بالحتف المُحيق به؟ هل ترك نفسه هكذا يموت بهدوء دون أنْ يجدَ مَنْ يرثي له أو يُواسيه في محنته؟ وهل هو محتاجٌ إلى مَنْ يوقد جذوته من جديد في الدّمّ العربيّ الّذي انماع وتراقصَ على أنغام روايةٍ لا ترحم، ولا تترك له فرصةً ليلتقط أنفاسه وهي تذبحه من الوريد إلى الوريد؟
لندع الشّعر في مأساته الحقيقيّة، ونسأل: هل يمكن أنْ تحلّ الرواية محلّه، وتتسلّم الرّيادة، وتأخذ بزمام دوره الأساسيّ في كونه ديوانَ العرب؟ ها أنذا في هذه المقالة الجريحة أحاول طرفًا من هذه الإجابة:
كان كعب الأحبار يُدرك أنّ الشّعر إنجيلُ العرب وتوراتُهم حينَ سأله عمر بن الخطّاب عن ذلك، كان موقِنًا أنّ الشّعر شعلتهم المُقدّسة، وأنّ مكانته في النّفوس ارتقتْ إلى أنْ تكون وحيًا، بل إنّ النّبيّ محمّدًا -صلّى الله عليه وسلّم- حينَ قال لحسان بن ثابت "اهجُهم وروحُ القُدُس معك" كان يُدرك قبلهما أنّ الشّعر وحيٌ لكنْ دونَ نبوّة، فجعل روح القُدُس وهو جبريل يقف إلى جانب شاعره ويؤيّده بوحيٍ من عنده، سواءً أكان هذا الوحي حقيقةً أم مجازًا، من أجل ذلك أطلق ابنُ الخطّاب فيما بعدُ قولته الشّهيرة "الشّعر ديوان العرب"؛ يقصدُ أنّه يُسجّل أيّامهم وأحوالهم وأفكارهم، وينقُل تاريخهم ويجعل من هذا التّاريخ وسيلةً لتعريف الأمم بأخلاقهم ومآثرهم، ويرفعها بذلك إلى مستوى العالَميّة، وشايعه على ذلك أبو تمّام حينَ قال:
ولولا خِلالٌ سنَّها الشّعرُ ما درى
بُغاةُ النَّدَى من أينَ تُؤتَى المكارمُ
فمن أينَ تسلّلتِ الرّواية في الغَلَس لتحلّ محلّ الشّعر؟ هل صارت الرّواية اليوم هي الّتي تنطقُ بما كان الشّعر ينطق به من قديمٍ في العهد والزّمن؟ إذا كانتْ روايةً واحدةً تُطبَع اليومَ عشرات الطّبعات وتُقرأ من آلاف النّاس في أنحاء العالَم، في حين لا يكاد يُطبَع ديوانٌ طبعةً ثانية، ولا يُقرأ إلاّ من القليل من النّاس أكثرهم يفعل ذلك من أجل الدّراسة لا من أجل الشّعر نفسه؛ فما الحاجة إلى الشّعر إذًا؟! وإذا كانت الرّواية تُقدّم كلّ شيءٍ بما فيه الشّعر نفسه، وتُغني عنه فلماذا يكتب الشّعراء إذًا ولِمَنْ يكتبون والنّاس يُولّون عنه ويُعرِضون؟!
إنّه لا يُمكن لنا أنْ ننكر أنّ الرّواية اليوم هي الّتي -سواءً أعجبنا ذلك أمْ لم يُعجبنا- تُصوّر الحياةَ العربيّة بتفاصيلها اليوميّة، وما يُعانيه الفرد العربيّ من سَحقٍ من زُمَر الاستبداد والطّغيان، وتُعبّر عن همومه وتطلّعاته، وتفرد بين ثناياها مساحةً واسعة لمآلاته، بل وتُلقي الضّوء على المناطق المُعتِمة الّتي كان ينأى بنفسه عن ارتيادها لولاها، وتُقدّم القضايا الإنسانيّة الّتي كان الشّعر يقدّمها ويبحثها؛ كالحرّيّة وقضايا المنبوذين والمُهمّشين والمَنفيّين والموجوعين، وتصفُ حربه مع الآخَر وحربه مع نفسه، ونِضاله من أجل وجوده، بل إنّ الرواية ذهبتْ إلى أبعدَ من ذلك حين قدّمتْ ما يحلم به العربيّ وما يطمح إليه في خياله لتجعله يعيش هذا التّوق في صفحاتها.
لكنّنا لا يُمكن أن ننكر في المُقابل أنّها تُخدّره، وتوسّع المسافة بين ما يريد وما هو كائنٌ، وتعمّق الهُوّة بينه وبين أمنياته فتجعله يرضَى بتحقيقها في دهاليزها وخلفَ أبوابها الغامضة، في حين أنّها على أرض الواقع تزيد من ألمه ويأسه، وتجعله في نهاية المطاف يصحو على تأوّهاته وواقعه المرير دون أنْ تقدّم له عِلاجًا ناجِعًا باستثناء أفيون الكلمة السّاحرة!
إنّه زمنُ انقلاب الأذواق، زمن الاستِسهال، زمن اللّجوء إلى الكلمة للتّسلية والمتعة لا إلى الرّقيّ والجَلال. زمن الهروب من الكلمة الّتي تحتاج إلى انقِداح في الذّهن، واستعدادٍ لها بالثّقافة الواسعة العميقة، ولهذا تعملقتِ الرّواية لأنّها تحقّق للقارئ العربيّ ذلك الهروب السّهل اللّذيذ، لكنْ ماذا لو عاد للعقل العربيّ ذلك العمق وتلك السّعة فهل سنشهدُ عودةً حقيقيّة للشّعر!!
إنّ العربيّة لغةٌ شاعرة، إنّها وُلِدَت مع الشّعر وبه وجدتْ نفسَها وتألّقها، وإخالها لم تحظَ بمكانتها السّامية في غير ظلاله، وما نفذتْ إلى القلوب بغير وسائله، لغةُ الإحكام، لغة الشّعور في المقام الأوّل، وإنْ تعدّدتْ مقاماتها، لكنّه لا تخضع لغير سلطانه، ولا تتوهّج بغير شعلته المُقدّسة. ثُمّ ها أنتَ أيّها الشّعر؛ ها أنتَ هناك في الرّكن القصيّ تتوارَى لكنّك كائنٌ، أدركُ أنّكَ تُصارع الموتَ لكنّكَ حيّ، وستعودُ حينَ تعودُ للعربيّة مكانتُها في النّفوس، إنّها المكانة الّتي تستقي من النهر العذب الخالد الممتدّ من امرئ القيس إلى شوقي، ومن عمر بن أبي ربيعةَ إلى نزار قبّاني.
بريق الرّواية يأخذُ اليومَ بالألبابِ والأنفاس لكنّه لا يُغني عن الشّعر للعرب بحالٍ من الأحوال، إنّما يستمدّ العربيّ وجوده من الشّعر، وَوُلِدَ ليجد في الشّعر نفسَه، وليكشفَ له هذا الشّعر دربه، وسيفعل يومًا حينَ تنتصر العربيّة في نفوسنا. وستحفظُ للنّثر مكانته، لكنّها لا يُمكن أنْ تحلّ محلّه في كلّ حين، فلا لغة النّثر قادرةٌ على أنْ تفخر كما تفعل لغة الشّعر، ولا أنْ تصفَ مثله في كلماتٍ مُكثّفاتٍ يحملنَ روح العربيّ الثائرة المتمرّدة، النّافرة المُعتدّة. ولعلّ العقّاد لم يُجانب الصّوابَ حينَ قال: "إنّ قنطارًا من القصّة يُساوي درهمًا من الشّعر".
الجزيرة نت