الإجراء الصادم الذي اتخذته السلطة الوطنية الفلسطينية ضد موظفيها في قطاع غزة بخصم30% من رواتبهم بشكل مفاجئ، أثار موجة غضب عارمة في صفوفهم، خاصة أنها تأتي بعد سلسلة إجراءات تعسفية ضد القطاع، تؤكد أن رئيس السلطة محمود عباس يعمل على سياسة تهدف إلى تضييق الخناق والحصار على غزة؛ لعدة أسباب منها فك الارتباط السياسي والإداري والمالي مع القطاع، ودفع سكانه نحو الانفجار؛ من خلال خلق أزمات مالية واقتصادية.
ويعتبر قرار السلطة خصم 30% من رواتب موظفيها في غزة، البالغ عددهم قرابة 60 ألف موظف، دون أي اعلان مسبق، استكمالا لحرب الأرزاق على قطاع غزة الذي بدأ منذ العام 2007 بقطع الرواتب وفصل كل من يلتزم بعمله ووقف العلاوات والامتيازات المستحقة للموظفين.
وكانت صحيفة الرسالة أعدت سلسلة تحقيقات كشفت عن إشكالات خطيرة وشبهات فساد في السلوك الإداري والمالي للسلطة الفلسطينية استنزفت موازنتها، وبدلا من معالجتها لجأت إلى خطوات خطيرة كانت موجهة في مجملها نحو قطاع غزة، بذريعة أنه يشكل عبئا ماليا كبيرا عليها وأنه يستنزف أكثر من 50% من موازنتها، على غير الحقيقة القائلة إنها تجني من غزة أموالا طائلة تغطي نفقاتها وتحقق فائضا لخزينتها، بموجب تحقيقات الرسالة.
بالأرقام.. "الرسالة" تكشف سرقة السلطة أموال غزة
ومنذ أن طوت 2007 صفحة الاقتتال الداخلي ودخلت الأراضي الفلسطينية مرحلة الانقسام السياسي، استغلت السلطة الوضع القائم للتهرب من مسؤولياتها اتجاه القطاع والاستفراد بالقرار المالي، رغم ان ما تحصله من منح ومساعدات مالية مرصود للأراضي الفلسطينية ككل بما فيها قطاع غزة المحروم من هذه الاموال.
وبحسب دراسة أعدها فريق محللين ماليين فإن السلطة تدعي أنها تنفق حوالي 47% من موازنتها على قطاع غزة إلا أن ما ينفق فعلياً لا يتجاوز 22% من اجمالي الموازنة بما يعادل مبلغ 918 مليون دولار من أصل 1.7 مليار دولار "حصة غزة الافتراضية" هي مجموع ما تم إنفاقه بما في ذلك صافي الإقراض.
وتشير البيانات إلى أن صافي الإيرادات كان أكثر بمقدار 159.45 مليون دولار عن المقدر أي بزيادة نسبتها %5.8 وجاء هذا الارتفاع نتيجة زيادة إيرادات المقاصة بنحو 218.33 مليون دولار، أي بنسبة 12% عن المقدر، في حين نقصت قيمة الإيرادات المحلية بنحو 70.01 مليون دولار عن المقدر أي 7.6%".
وقد حملنا البيانات إلى الجهات الرقابية المعنية في رام الله، ووضعناها على طاولة مقرر لجنة الموازنة والشؤون المالية في المجلس التشريعي الفلسطيني النائب ابراهيم دحبور، الذي أكد أن النسب والأرقام الواردة مطابقة للواقع بشكل كبير، وتعززها العديد من القرائن والمعطيات والوقائع على الأرض، ما يجعل منها بيانات مالية حقيقية ومعطيات رقمية ذات معنى.
ويتقاطع قول النائب دحبور مع ما قاله مفوض ائتلاف "أمان" للنزاهة والمساءلة الدكتور عزمي الشعيب، عن أن "موازنة السلطة لا تتمتع بالشفافية المطلوبة، وأن بنودها غير محددة على المحافظات التي يتم صرفها".
استبعاد غزة
حاول فريق التحقيق إخضاع الارقام للتحليل مع المختصين الذين حضروا في ضيافتها واستغرق أمر البحث ثلاث جلسات. حتى خرجت بأرقام تبدو صادمة نتيجة الفرق الكبير بين ما تنشره السلطة من معلومات وما تنفقه فعلياً، خاصة في ظل مساهمة قطاع غزة القوية في إجمالي إيرادات السلطة والتي بلغت 2.76 مليار دولار خلال عام 2014، خلاف المنح والمساعدات الخارجية، حيث تمثل المقاصة الجزء الأكبر من تلك الإيرادات حيث بلغ اجمالي إيرادات المقاصة 2.03 مليار دولار والصافي 1.93 مليار دولار.
وتشير البيانات إلى أن غزة تساهم بنسبة 50% من ايرادات المقاصة، وهي نسبة كبيرة جعلت من القطاع بمثابة "بقرة حلوب" للسلطة، وتعود أسباب ارتفاع ايرادات المقاصة إلى تحويل كامل الواردات لغزة عبر الطرف الاسرائيلي وذلك بعد اغلاق الأنفاق بشكل كامل ما ساهم في زيادة ايرادات المقاصة عام 2014 بنسبة 12% عن السنوات السابقة.
وتبين أيضا أن نسبة التهرب الضريبي في الضفة أعلى بكثير من غزة نتيجة المساحة الواسعة والحدود الطويلة بخلاف الوضع في غزة حيث الاحكام الكامل لحدودها، الى جانب ضعف القدرة الانتاجية في غزة مقارنة بالضفة الأمر الذي يؤدي إلى مضاعفة احتياجات القطاع من الواردات.
وبالتالي فإن اجمالي مبلغ المقاصة المُحصل من غزة هو 965 مليون دولار سنوياً بواقع 80.42 مليون دولار شهرياً، وفق تقدير المختصين.
وأكد أن ضريبة المقاصة على السلع والخدمات التي تدخل قطاع غزة، تجبيها وزارة المالية في رام الله بنسبة 100%، ولا يستفيد تجار وسكان القطاع منها شيئا، ولا تصادرها (إسرائيل) كما كانت تدعي السلطة، مشيرًا إلى أنها مبالغ كبيرة تصل إلى حوالي مليار دولار.
وشدّد دحبور على أن صافي إيرادات خزينة السلطة من قطاع غزة، لا يقل أهمية عن صافي المنح والمساعدات التي تتلقاها السلطة من الدول الأخرى، إذ أن صافي إيرادات خزينة الوزارة في رام الله من قطاع غزة بعد النفقات جميعها، يصل إلى 600 مليون دولار سنويا، أي ما نسبته 15% من الموازنة وأكثر من 60% من الإيرادات المحلية الواردة في الموازنة.
وقال دحبور "التقرير المالي لموازنة السلطة لعام 2014 يؤكد أن السلطة تعتبر قطاع غزة ومن يعيش فيه دولة أخرى وشعبا آخر، يجوز لها أن تنهب خيراته وتستغل موارده، دون أن تتحمل أية التزامات تجاهه، ولا تكترث بمعاناة مشرديه وصرخات منكوبيه".
بقرة حلوب
المتابع لشركات المساهمة والاستثمار الكبرى في الاراضي الفلسطينية يدرك جيداً أن غزة بمثابة "بقرة حلوب" تدر عليها اموالا طائلة تفوق تلك التي تجنيها من الضفة، في حين حصلت السلطة ما لا يقل عن مبلغ 47.5 مليون دولار خلال عام 2014 عن عمل الشركات الكبرى في غزة، بما يعادل 3.96 مليون دولار شهرياً، وهذه البيانات المتوفرة عن 13 شركة مساهمة فقط تعمل في كل من الضفة وغزة.
كما تجبي السلطة ضرائب ورسوما أخرى منها ضرائب على دخل موظفي السلطة العاملين في غزة وكذلك الرسوم والمكوس المحصلة عن غزة وغيرها لم تتوفر لدينا بيانات دقيقة حولها وبالتالي تم استبعادها من الحسبة.
وبلغ اجمالي المساعدات التي تلقتها السلطة في عام 2014 حوالي 1.2 مليار دولار، منها 201 مليون دولار دعم للنفقات التطويرية، والباقي 1.021 مليار دولار هو عبارة عن دعم للموازنة.
الانتقال بالمعلومات والارقام بين غزة والضفة أشبه بمحاولة حل لغز في الرياضيات، خاصة أن الحصة المفترضة لغزة من واقع الموازنات السابقة لما قبل الانقسام هي 40% وبالتالي تقدر حصة غزة من المنح والمساعدات الواردة للسلطة بقيمة 480 مليون دولار بواقع 40 مليون دولار شهرياً.
تجاهل واقصاء
من خلال الارقام والبيانات الواردة يمكن القول إنه بدون احتساب المنح والمساعدات التي تحصل عليها السلطة، فإن مقدار ما تُحصله من إيرادات من قطاع غزة يغطي جميع المبالغ التي يتم انفاقها عليه والبالغة 918.4 مليون دولار خلال العام 2014، مع تحقيق فائض قدره 94 مليون دولار، وبإضافة حصة غزة من المنح والمساعدات البالغة 480 مليون دولار سنوياً، فإن الفائض المالي الذي تحققه السلطة من غزة يصبح 574 مليون دولار في السنة، بواقع حوالي 48 مليون دولار شهرياً.
رواتب وامتيازات الفئات العليا تنهش 33.3% من موازنة السلطة
منتصف عام 2015 أعلنت حكومة رامي الحمد لله خطة تقشف بهدف تغطية الفجوة المالية في الموازنة العامة، الا أن الإجراءات التقشفية التي قالت الحكومة إنها تنوي تنفيذها بقيت حبراً على ورق إلا من بعض الخطوات التي لم تطل سوى صغار الموظفين في القطاع العام، وتخفيض بعض المصروفات التي كانت توجه إلى الشرائح الكادحة في المجتمع الفلسطيني.
معدة التحقيق حصلت على أرقام كبيرة تكشف عن الرواتب والامتيازات التي يتلقاها كبار الموظفين في الشق "المدني والعسكري" هذا عدا عن المؤسسات العامة غير الوزارية، والتي تعمل خارج إطار القانون، وتتلقى رواتب خيالية كونها غير محددة بقانون.
وبلغة الأرقام فإن عدد موظفي السلطة الفلسطينية حتى نهاية العام 2015 بلغ 155 ألف موظف مدني وعسكري، منهم قرابة 15.500 من الفئة العليا، في "الشق المدني مدير عام وما فوق" وفي الشق العسكري "رائد فما فوق".
ويتلقى هؤلاء رواتب مرتفعة يبلغ متوسطها 8000 شيكل حوالي "2000" دولار، وبحسبة بسيطة فإن متوسط الرواتب فقط التي تتلقاها الفئة العليا تبلغ شهرياً 31 مليون دولار، أي أنها تستنزف من موازنة السلطة سنوياً تقريباً 372 مليون دولار، ما يمثل 19% من قيمة فاتورة الرواتب السنوية البالغة 2 مليار دولار.
وربما تعتبر هذه النسبة مقبولة فيما لو تحدثنا عن الرواتب فقط، لكن الإشكالية الحقيقية تكمن في الامتيازات التي تحصل عليها هذه الفئات والتي تستنزف أضعاف هذا المبلغ.
ويتلقى موظفو هذه الفئة امتيازات إضافة إلى مكافأة شهرية تتراوح من 2000 إلى 30000 $، وتتمثل الامتيازات بالتالي: 1000 $ فاتورتي هاتف وجوال شهرياً، 2000 $ مهمات سفر، 1000$ مصروفات سيارة، و2000 $ مصروفات مكتب.
تعيين رؤساء مؤسسات برتبة وزير لا يخضع للكفاءة أو القانون بقدر ما يخضع لمعيار الولاء
ويمكن اعتبار أن متوسط الامتيازات "الراتب+الامتيازات" التي يحصل عليها كل موظف من هذه الفئة شهرياً البالغ عددها 15.500 موظف يقدر بحوالي 9 ألاف دولار ما يعني أن فاتورة الامتيازات تصل 139 مليون دولار شهرياً، ومجموعها مليار و670 مليون دولار سنوياً وذلك من قيمة الموازنة العامة التي تبلغ 5.018 مليار دولار.
وبالتالي فإن نسبة ما تستنزفه هذه الفئة من الموازنة العامة تبلغ 33.3% أي ثلث الموازنة تذهب للفئة العليا، ما بين رواتب وامتيازات.
امتيازات الوزراء (مفتوحة) وغياب الرقابة يستنزف خزينة السلطة
نظرة سريعة على مجموع الامتيازات المتاحة للوزراء خلال توليهم مهامهم أو عقب مغادرتهم وزاراتهم، تفاجئك حجم المبالغ التي يشرعها لهم القانون إذا ما قورنت بالوضع المالي الحالي للسلطة الفلسطينية.
البحث عن مجمل المصاريف التي انفقت من خزينة السلطة على الوزراء استند الى قانون مكافآت ورواتب أعضاء الحكومة رقم 11 لسنة 2004.
وبحسب المراسيم الرئاسية المعلنة، فقد تم تشكيل سبع عشرة حكومة خلال أكثر من عشرين عاما،
وضمت تلك الحكومات 168 وزيرا، من بينهم من شغل منصب وزير أكثر من مرة، وتم استثناء أحمد قريع وسلام فياض، لأنهما توليا رئاسة الحكومة فيما بعد، ليصبح اجمالي عدد الوزراء 166 وزيرا، تناوبوا على 406 حقائب وزارية، مع العلم ان رؤساء الوزراء كانوا يترأسون أيضا بعض الوزارات التي لم تدخل في مجمل عدد الحقائب.
وبناء على ما سبق فإن الحد الادنى للتكاليف الشهرية للوزير يقدر 13.500$ -خاصة ان تكلفة السفر مرتفعة-، حيث تضم الحكومة الحالية ثلاثة وعشرين وزيرا الى جانب رئيس الوزراء مما يعني ان الميزانية الشهرية لهم تزيد عن ثلاثمائة ألف دولار، أي قرابة أربعة ملايين دولار سنويا.
وبعد أن يغادر الوزراء مناصبهم يحصل كل واحد منهم على مكافأة تقدر ما بين 1500 الى 2400، دولار شهريا بما نسبته 50% أو 80% من الراتب وفق القانون.
وفي حال اتخذنا 65% متوسط النسب السابقة التي يحصل عليها كل وزير بمعدل 1950 دولار، وعممت على 166 ممن شغلوا ذلك المنصب الوزاري فان معدل ما يحصلون عليه يبلغ ما يزيد عن ثلاثمائة وعشرين ألف دولار شهريا، ما يعني زيادة أربعة ملايين دولار سنويا على مصروفات وزارة المالية.
مقارنة ما يتقاضاه الوزير الفلسطيني بغيره يصل الى مفارقة غريبة حيث أن رئيس الوزراء الهندي يتقاضى 1.6 مليون روبية شهرياً بواقع 2500 دولار، أما الراتب السنوي للرئيس الصيني -ثاني أكبر اقتصاد بالعالم-لا يتجاوز الـ 22 ألف دولار، وذلك بعد تلقيه 60 % زيادة بالراتب مطلع عام 2015.
مصروفات مكتب الرئيس.. تفاصيل مجهولة خارج الرقابة
سجل الدين العام للسلطة الفلسطينية ما يزيد من عشرة مليارات شيكل، في وقت اتخذت الحكومة برئاسة رامي الحمد الله قرارا بالتقشف، وذلك نتيجة الوضع المالي المتأزم للسلطة.
في المقابل لم تقترب الحكومة من ملفات مالية تستنزف خزينة السلطة بمليارات الشواكل، أبرزها موازنة مكتب الرئيس ومصروفات قطاع الامن، ووزارتي الخارجية والتخطيط.
المعلومات التي تمكنت "الرسالة" من الوصول اليها بعد البحث والتحري والتواصل مع مصادر مطلعة على الوضع المالي للسلطة، كشفت أن نفقات مكتب الرئيس في عام 2015 تجاوزت 165 مليون دولار، منها أكثر من 95 مليون دولار رواتب العاملين في الرئاسة، بينما بلغت النفقات الجارية ما يفوق 30 مليون دولار، ووصلت مصاريف التطوير 18 مليون دولار.
تلك الارقام تتحفظ وزارة المالية في رام الله على اعلان تفاصيلها، لكن إذا ما تم تحليل كل بند على حدة تظهر أرقاما مالية كبيرة دون وجود اجابات عن مواضع صرفها.
فإذا ما قسمت اجمالي رواتب العاملين بالرئاسة السنوية البالغة 95 مليون دولار، على متوسط الأجر الشهري لموظفي القطاع العام الذي يقرب من 1000 دولار- حسب المتوسط المعلن للعام 2014 - يتضح أن 8000 موظف يتقاضون رواتبهم من مكتب الرئيس.
وبما أنه من غير المنطقي أن يضم مكتب الرئيس ثمانية آلاف موظف، فان ذلك يفتح باب التساؤل عن قيمة الرواتب التي يتقاضاها من يعمل هناك، وهل يوجد اشخاص يتقاضون رواتب شهرية على بند مكتب الرئيس دون ان يكون لديهم مهام عمل.
أما بند النفقات الجارية البالغة 30 مليون دولار فتشمل مهام السفر، والمركبات، والوقود، والاستقبال، والنثريات.
فيما لا تعرف سبل صرف المصاريف التطويرية المقدرة بثمانية عشر مليون دولار.
ولا توجد بيانات منشورة عن الهيكل الاداري لمكتب الرئيس، والامتيازات الخاصة بالعاملين فيه، وتغيب تفاصيل قيمة المكافآت والنثريات ومصروفات المركبات والمحروقات التي تصرف لصالحه.