يصلُ رسولُ اللهِ إلى المسجدِ الأقصى، يربطُ البراقَ عندَ حائطٍ يُسمّى من بعدِهِ "حائط البراق" ويدخلُ من البابِ الأقرَبِ إلى هذا الحائط المبارك. تمرٌّ السنوات من بعد ذلك حتى يصلَ الإسلام إلى المغرب العربي، فيبدأ أهل المغرب منذ سنوات إسلامهم الأولى يقصدون الجزيرةَ العربيةَ لأداء فريضةِ الحج ثمّ يمرّون بالشام من بعدها يريدون رؤيةَ مسرى النبي -صلى الله عليه وسلم- يتلمسون بركة النبي وأثره من مكان إلى آخر ويحققون أجر شد الرحال إلى المساجد الثلاثة "المسجد المكي، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى".
يقيمون في القدس سنواتٍ ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً يرابطون عند الأقصى في حلقات طلب العلم ويختارون لأنفسهم "باب النبي" الذي دخل منه يومَ المسرى باباً لهم ليسمّى على إثرهم "باب المغاربة" حتى يومنا هذا. تسمع منهم هناكَ هديرَ العلم، وحلقات القرآن، يخرجون منها ليشاركوا في جيش صلاح الدين الذي قال عنهم: "المغاربة قوم يفتكّون في البرّ، وينقضّون في البحر. يجاهدون عاماً ويحجّون عاماً ".
عند باب "النبي" أو باب "المغاربة" كان موعدهم، شاهداً على أمةٍ جمعت الشرق بالغرب، وجعلت كل الزوايا فيها وطناً واحداً. عند بابِ المغاربةِ كان تَجَمّعُهُم يتلقّون إجازات ودراسات ويدوّنون العلم الذي يتناقلونه جيلاً تلو آخر. ليبقى باب المغاربة هذا شاهداً كلّما مررت منه على الحب الذي أودعه الله في قلوب المؤمنين تجاه المسجد الأقصى فجعله حباً مباركاً يفيضُ خيراً ورباطاً وجهاداً.
تمر السنوات، ليبقى "باب المغاربة" شاهداً لكنّه هذه المرةَ علينا لا لنا. اليوم يُفتحُ "باب المغاربة" على مصراعيه، ليستقبل وفوداً لم تأتِهِ طلباً للعلم والبركة كما كانت، بل جاءته استيطاناً واقتحاماً لحرمة المسجد الأقصى. اليوم يُفتحُ باب المغاربة تمهيداً لمجموعات المستوطنين التي تريد اقتحام المسجد الأقصى خلال هذه الأيام. عند "باب المغاربة" تُنصَبُ اليومَ خيَمٌ تمتلئ بالمياه والحلوى والوجبات السريعة لتُقدّم لعدوٍ يُريدُ اغتصاب حرمةِ الزمان والمكان. عند "باب المغاربة" كان يقف العلماء لاستقبال طلبةِ العلم الذين أتوا من مغرب العرب طلباً للبركة، واليوم يقف مرشدون صهاينة يستقبلون الأفواج التي تأتي المسجد من كل مكان تريد أن تدّعي لها فيه حقاً.
لقد عمدَ الاحتلال منذ جاء مدينة القدس إلى تغيير ملامحِ الأماكن وأسمائها، واختص بذلك هذه المنطقة التي تحمل إرثاً مباركاً بمرور النبي -صلى الله عليه وسلم- منه، ومن ثمّ مرور عمر بن الخطاب منه أيضاً يومَ الفتح كما جاء في كتب ابن كثير، ومن ثم مرور أهل المغرب منه طلاباً للودِّ والعلم. فجعل الاحتلال من هذه المنطقة مكاناً مقصوداً للاقتحام؛ إذ يتطلع المستوطنون اليهود اليوم إلى بناء كنيسٍ يهوديٍّ داخل صحن المسجد الأقصى، وبيّنت خرائطهم التصورية نيتهم انطلاق البناء من باب المغاربة تحديداً وكأن لهم في هذا المكان ثأر قديم يريدون الاقتصاص منه.
بابُ المغاربة هو موعد المستوطنين اليوم والأيام القادمة، ولكم تمنيت أن أقول: "باب المغاربة موعدنا". أرى الصور تتناقل للمستوطنين وهم يحاولون إدخال قرابين يذبحونها عند ساحات الأقصى، وأخالُ ماذا لو كان عند الباب موعدنا نحن وفي الباحات جلستنا وداخل المسجد سجدتنا، نقدّم القرابين، نكثر الدعوات، نجلس في طلب العلم حلقات. ماذا لو كان باب المغاربة موعدنا؟
كان هذا الباب يوماً شاهداً على عزّةِ أمةٍ بأكملها، ثم مرّ العمر ليكون شاهداً على ذلٍّ أمةٍ بأكملها أيضاً. لا أجدُ أمام منظر المستوطنين ما يشدُّ من أزر الروح أو ما يعزّي القلبَ فيما يرى. لا أجد لنفسي ولغيري حجةً تخففُ وطأ المصاب الذي إليه ألنا. إلّا أنني اؤمنُ أننا لم نصل هذه المرحلة بين يومٍ وليلةٍ، وأن سقوطاً تلو سقوط أوصلنا إليها. ولذا فبناءٌ تلو بناءٍ يعيدُ لنا ما فقدنا. ما سقطَ في هذه الأمة كان العباد قبل البلاد، والفرد قبل الجماعات، وما علينا أن نبنيه اليوم تبعاً هو العباد قبل البلاد والفرد قبل الجماعات.
موعدهم عند باب المغاربة، وموعدنا نحن أيضاً. موعدنا رغم بعد الأجساد لكن برباط الروح والدعاء والبناء، قفوا بين يدي الله تكثرون الدعاء، ثم جوبوا في أعمالكم ومشاغلكم ودارستكم تنوون الإصلاح. سأجلسُ في حلقات العلم ونيتي قبلها وبعدها: "باب المغاربة موعدنا"، سأمسك قلمي وكتبي ودفاتري وأؤدي مهمّتي وفي قلبي نبض يذكرني بأن عند "باب المغاربة موعدنا". سأحدث عنه مَن ألقى، سأشدّ وثاق الإيمان في قلبي لكَي أبقى، على عهدي على وعدي.
عند باب المغاربة موعدنا، فاحرصوا إذا أتيتم الباب يوماً أن تأتوه محمّلين بالوعي، بالخلق الذي يبني، بالكفاءة التي تُغني، بالعمل الذي يُرقِي.. عن باب المغاربة موعدنا، مرابطين لا مدبرين، عاقدين العزم لا متخاذلين.. نبدأ من الفرد، نصنع الإنسان، إلى أن نبني الأمم ونصنع المجتمعات.