ثقافة
يقال إن الكعك بالقدس يختلف طعمه عن سواه، هناك روايات كثيرة لذلك ولكنني أميل للرواية التي تقول بأن ماء القدس هو السبب. أذكر أنني التهمت ثلاث كعكات مقدسية في أول ليلة قضيتها بحضن القدس وبعدها غفوت سعيدة بعيون المدينة.
كنت آخر مرة قد زرت فلسطين في السادسة عشر من عمري، وبعدها مرت عشرون سنة ولم أزرها قط. قررت أخيرا تقديم طلب للزيارة عبر مكتب سياحي بالأردن لمدة أسبوع. استغرقت الإجراءات الأمنية من الطرف الصهيوني شهرين تقريبا، وتم رفض الكثير من المتقدمين. الصهاينة يخافون والجبن يسكن أرواحهم، وبالتالي فهم يرفضون الكثير من الطلبات، ولكن الله أراد لي الذهاب ولذلك فقد تم قبول طلبي! سألني الكثيرون: "أتطبعين مع العدو؟"، ولكنني كنت واثقة من قراري. أنا سأطبع مع أرضي ووطني ومسجدي يا من تحرمون وتحللون وتوزعون قرابين الوطنية والخيانة.. فرفقا بي وبقلبي.
عقدت العزم وركبت الحافلة المتوجهة من عمان إلى القدس عن طريق المعبر الشمالي. خرجت من الضفة الشرقية للضفة الغربية، فوقعت عيني مباشرة على نهر الأردن، ما أجمله! لم أكن أتخيل أن نهر الأردن بهذا الجمال، ظننت أنه قد جف منذ زمن بعيد! رأيت امرأة تمر عبر النهر حاملة طفلها الذي لم يتجاوز بضعة أشهر بيديها، كانا يبكيان معا. سارعت المرأة الخطى لتقطع النهر، وبعد أن عبرت للضفة الشرقية حدثت نفسها بأنها ستعود بعد شهر عندما تنتهي الحرب. كانت تلك المرأة هي جدتي وكان الطفل هو والدي، وحدث ذلك في عام النكبة. رأيت المشهد بأكمله أمامي بلحظة واحدة، قطعت تفكيري سيدة طاعنة بالسن من الكرك، كانت تبكي كثيرا بينما تجاوزنا نهر الأردن ودخلنا إلى فلسطين. ما أجملك وما أغلى دموعك يا من تشبهين جدتي. ها نحن على الضفة الغربية الآن، ابك إذًا يا جدتي، يحق لك البكاء، فابكِ.
استقبلنا على حدود الضفة الغربية من النهر علم كبير ذو نجمة سداسية زرقاء، كان مجرد النظر لعلم الصهاينة هو استفزاز كبير لي وصدمة أولى هي الأصعب على نفسي، فأشحت نظري عنه سريعا. نزلنا من الحافلة ورأينا المرتزقة بانتظارنا. في معبر إسرائيل ترى معظم المجندين من فئة المراهقين، أعمارهم لا تتجاوز العشرين ومعظمهم من الإناث. علمت لاحقا السبب في ذلك وهو أن إسرائيل لا تملك قوى بشرية كافية، فتقوم بتجنيد الجميع، ذكورا وإناثا من عمر الخامسة عشر! إسرائيل هشة جدا، تجند الأطفال وتعتمد على جنود مرتزقة "يهود" من الخارج لوحدة العقيدة وتوكل لهم جميع المهام القتالية الصعبة، أما الإسرائيليون بداخل الكيان المسخ فيخافون من ظلهم. ولو فتحت حقيبتك بالخطأ أمامهم سيظنون أنك بصدد طعن أحدهم، وسيفرغون بنادق رشاشاتهم بجسدك!
قامت بتفتيشي مجندة من يهود إثيوبيا على ما أظن، تركت بلادها وجاءت لإسرائيل لأن الانتماء للعقيدة عند اليهود أهم من كل شىء، وإسرائيل المسخ هي من تمثل عندهم صلب العقيدة! فكرت بحالنا وأحوالنا نحن المسلمين، يا لخيبتنا! إي وربي، يا لخيبتنا! ماذا تفعل هذه الصهيونية في وطني؟ وتفتشني أيضا! ما أوقحها! انتهيت من الإجراءات الأمنية وخرجت من المعبر، كانت هناك يافطة كبيرة عليها حمامتا سلام وعبارة باللون الأزرق تقول: "مرحبا بكم في إسرائيل". كم يتقنون صناعة الكذب! غادرت المعبر وصعدت للحافلة سريعا.
على طول الطريق من بيسان للقدس مرت أمامي مزارع نخيل وأعناب. لم أذكر أن عيني رمشت حقا طيلة الطريق، وعندها عاهدت نفسي ألا أنام إلا قليلا في هذه الأيام السبعة، سأروي ظمأ قلبي ولن أرتوي أبدا. في الطريق رأيت أطفالا يقال لهم مستوطنون، يلعبون بدراجاتهم ويضعون فوق بيوتهم أعلامهم. هذه هي المستوطنات إذن! هي أحياء متكاملة يسكن فيها من يأت لأرض الميعاد كما يقولون. يالحرقة قلبي! لم يتألم قلبي يوما أكثر مما فعل بذلك اليوم العصيب. كم هي حزينة "فلسطين"!
دخلنا القدس ولمحت من بعيد قبة الصخرة الذهبية. ماذا أقول عما أصابني وقتها! لا يمكن لأي كلام بالدنيا أن يصف ما حدث لروحي، هذه أنت أمامي يا أرض الإسراء والمعراج. ها أنت أمامي يا من جمعت أنبياء الله على صلاة وتسبيح. أنا أقف حرفيا الآن على أرض عرج منها محمد للسماوات العلا، أنا بأرض موسى والمسيح، بأرض مريم وإبراهيم. أنا أقف بأرض أتاها عمر بن الخطاب محررا ومعاهدا، وأتاها صلاح الدين فاتحا. هي أرض مقدسة لا تشبه أي مكان آخر. لم أستطع استيعاب كرم الله لي في هذه اللحظة. هذا كثير جدا علي، كرم الله غمرني في تلك اللحظة الخيالية ولم أكن أستحقه حقا.
انطلقت من بيت جدي بالقدس إلى الأقصى مع أمي وابنة عمي عند صلاة العشاء. في مدينة القدس هناك قدس أخرى أجمل وتسمى البلدة القديمة، يحيطها سور شامخ جميل ويتخلله أبواب. عند باب العامود تحديدا اقتربت من مكان سقوط الشهيد الأردني سعيد العمرو، فتنتني روحه النائمة في أحضان الأقصى، فسلمت عليها، ثم دخلت البلدة القديمة وقبلت الحجارة والحارات والطرق والدكاكين. المجندون ينتشرون في كل ركن في البلدة، يحملون سلاحهم ويضعون أصابعهم على الزناد مباشرة. لم أكن أريد ليومي الجميل أن يتعكر بوجود الصهاينة، فتخيلت أنني والقدس نتسامر وحدنا بعد طول غياب، وبأن لا وجود لغرباء حولنا. ما أجمل الخيال، هو منقذي دائما! مشينا في الطرقات وتعرفت على طريق آلام المسيح وعلى حارة السعدية وخان الزيت وأبواب القدس المختلفة. ثم دخلت لجوهرة بيت المقدس، دخلت المسجد الأقصى.
في المسجد الأقصى تاه قلبي وتعلقت روحي، في المسجد الأقصى شعرت بمحمد والمسيح وموسى ومريم وإبراهيم الخليل. خلعت نعليي ولامست قدمي أرض الأقصى وشعرت بكرم الله علي، فلا تكفي جميع ابتهالات الحمد ولو كتبتها أنهارا. في الأقصى حلقت بروحي، وعند قبة الصخرة تأملت المكان والزمان واستحضرت الإسراء والمعراج وأمجاد صلاح الدين وعمر بن الخطاب. وعندما انتهت الصلاة رأيت قطة تقف على باب المسجد القبلي فحسدتها، حسدت تلك القطة فعلا، وتمنيت لو كنت قطة مثلها، أو لو كنت طائرا مثل ذلك الذي يقف فوق شجرة البلوط، أحلق فوق القدس كل صباح لأطبع قبلة على خد المدينة، ثم أستمع لآيات القران تتلى من المسجد وبعدها أمتلئ بهواء القدس.
خرجنا من المسجد من باب يسمى القطانين، مشينا بالسوق ورأينا باعة يعرضون كعكا شهيرا بالقدس يأخذ اسم المدينة. تذوقت من الكعك قليلا، ثم كان أن التهمت ثلاثة كعكات كاملة. سألت أمي عن كعك القدس، وعن سر طعمه الفريد جدا، فقالت أنه بسبب الماء ربما. "ربما".. ولكنني حقا ولغاية اللحظة لا أعلم سر كعك القدس، ومع ذلك فإنني أعلم بأنك إن تذوقته في أروقة البلدة القديمة، فسيكون هو أحد أسباب سعادتك وشوقك وتخمة الألم في قلبك على حد سواء.