قائمة الموقع

مقال: الورعُ مع الجهل أردى بني إسرائيلَ في عبادة العِجل

2009-08-05T11:15:00+03:00
الدكتور يونس الاسطل النائب في المجلس التشريعي

 

. يونس الأسطل

{الورعُ مع الجهل أردى بني إسرائيلَ في عبادة العِجل }

 

(قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ . قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) (طه: 96,95)

     فوجئ أهل خان يونس قبل أيام بإقدام ثلاثة من الشبان على تفجير عبوةٍ تحت مسرحٍ لعروس؛ بدعوى أنه احتفال ماجِنٌ, وأن هذا من تغيير المنكر, وقد ذهب ضحيته عشرات الجرحى بين خفيفة ومتوسطة, وقد تَبَيَّنَ بعد ذلك أنهم ينتسبون إلى مجموعةٍ تنظر إلى الحكومة والمجتمع على أنهم كفرة ومرتدون, وأن دماءهم مستباحة, وليس عليهم فيها سبيل أو جُناح.

     والحق أن هذا  الشطط في التفكير ليس بدعاً في الأمة؛ فإن ضحالة العلم, وقلة الوعي, تفعل بأصحابها الأفاعيل, لا سيما عند ظهور الورع الكاذب, وحين يتسلل إلى مواقع صناعة القرار فيهم المغرضون المعرضون, ذلك أن فارغي العقول والأفئدة تنطلي عليهم بعض التنظيرات الفكرية, والاستدلالات الظاهرية, فيظنونها الحقَّ المطلق, وما سواه الباطل المحض, ولا يكادون يكتشفون خطأ فهمهم إلا بعد حين قد يتراخى بِضْعَ سنين.

     إن السامريَّ كان كقارون من قوم موسى فبغى عليهم, حيث كان من شرذمة العملاء المرتبطين بفرعون وهامان وجنودهما, وكان دوره هو إفساد عقيدة بني إسرائيل؛ حتى يفقدوا أقوى سلاح في الوجود, وهو سلاح الإيمان بالله وحده, وهو الذي عصم السحرة حين خَرُّوا سجداً, وآمنوا بربِّ هارون وموسى, من أن يخضعوا للتهديد بقطع أيديهم وأرجلهم من خِلافٍ, وتصليبهم في جذوع النخل, وإنزال المزيد من العذاب بهم, فقالوا لفرعون:".. فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا " طه (72).

     لقد استغل السامري الورع, والتحرج من الحرام الذي غرسه سيدنا موسى في نفوس بني إسرائيل, وأفتاهم في غياب سيدنا موسى عليه السلام لميقات ربِّه بأن ما احتملوا من حُلِيِّ الفراعنة لا يحلُّ لهم أن يحتفظوا به, فضلاً عن أن ينتفعوا به, فما كان منهم إلا أن نبذوه, فقام ذلك اللعين, وصنع منه عجلاً, وترك فيه ثقوباً إذا نفذ منها الريح صدر له صوت يشبه الخُوار, وادعى أنه الإله الذي ذهب موسى لميقاته, فوافقوه وقالوا: هذا إلهكم وإله موسى, وقالوا لهارون: لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى, فلما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً كان أنْ سأل السامريَّ عن جريمته التي أَحْدَثَها في بني إسرائيل, وهم لا يزالون حديثي عهد بالوثنية؟ فأجابه بأنه قد أبصر ما لم يُبْصِرْ بنو إسرائيل؛ حيث رأى جبريل عليه السلام حينما جاء لاصطحاب موسى إلى الطور, فأخذ قبضة من التراب الذي وطئه فرسه أو قدمه, وقام بِرَشِّها على الذهب المصهور عند صناعة العجل؛ لمجرد أن نفسه قد سَوَّلَتْ له أن يفعل ذلك.

     إن المعروف في تاريخ الخلفاء الراشدين أن الفرس واليهود عندما أزال الإسلام سلطانهم, وأيقنوا بالعجز عن استرداد ما ذهب من الملك, قد تملكهم الحقد, وراحوا يستعملون الدهاء في الكيد للمؤمنين والصحابة الأولين, فما كان منهم إلا أن تظاهر بعضهم باعتناق الإسلام؛ كي يتمكنوا من إحداث فتنةٍ تلتهم الأخضر واليابس, وكان أن استغلوا الورع الذي انزرع في نفوس المؤمنين من أثر التزهيد في الدنيا؛ ليثيروا الحنق على عثمانَ بن عفان في مخالفته سابقيه أبا بكر وعمر, حيث كانا يرفضان إسناد الوظائف الكبرى إلى ذويهما أو ذراريهما, وهو لا يعدو أن يكون اجتهاداً في أمرٍ مباح, فلما بُويع عثمان رضي الله عنه رأى أن شمله لا يلتئم بعد أن أَطَلَّت الفتن برأسها إلا بأن يختار لتلك الوظائف أقرباءه من بني أمية, حتى لا يكون في النُّخْبَة الحاكمة نفوسٌ مناكفة, وهو اجتهاد في أمرٍ مباح, وفي كلٍّ خير, فالخلفاء الراشدون يُعَدُّ اجتهادهم من صميم السنة النبوية, التي يجب التمسك بها؛ بل العَضُّ عليها بالنواجد.

     لذلك فقد قام عبد الله بن سبأ اليهودي المتظاهر باعتناق الإسلام, وأضرابه من الموالي المنتسبين إلى فارس, بشحن نفوس ضِعاف العلم والوعي ضدَّ عثمان بن عفان ذي النورين, ثم تحريضهم على قتله, فلم يتورعوا أن يقتلوه وهو يتلو القرآن, حتى انتثر دمه على المصحف الشريف, وكان شعاره معهم ما قاله ابن آدم الأول: " لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ " المائدة(28).

     ثم بويع لعليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه, فاجتهد أن يَسْتَتِبَّ الأمن في دار الخلافة كأولويةٍ على ملاحقة قتلة عثمان, والقصاص منهم, فكان أن استغل أولئك المغرضون تلك السياسة في التأليب ضدَّ عليٍّ رضي الله عنه, وانضاف إلى ذلك أن بعض الصحابة قد تأخر في مبايعة عليٍّ, فلما أمر بعزل وُلاةِ عثمان رفض معاوية رضي الله عنه أن يستجيب لذلك التكليف, بدعوى أنه أولى الناس بعثمان, ومَنْ قُتِل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً, فضلاً عن أن معاوية قد عَرَفَ كيف يسوس أهل الشام, ويستحوذ على ولائهم بالسخاء واليدين المبسوطتين, وهو ما تأباه على أبي الحسن نفسُه, فإن الورع والتقوى يمنعانه من بعثرة الأموال العامة في استمالة النفوس, وكسب التأييد, ولكن زمنه كان مختلفاً عن زمن الصاحبين, فقد عاشا في جيلٍ كان الصحابة فيه كثيرين, بينما في خلافة عليٍّ رضي الله عنه قد قَلَّ الصحابة؛ لموت بعضهم, وَتَفَرُّقِ كثيرٍ منهم في الأمصار, ولم يكونوا على درجة من الإيمان تدنيهم من زهد الصحابة, فكان تأليف قلوبهم بالأموال والإقطاعات, وهو ما جعل أهل الشام يوالون معاوية, وينصرونه في رفض قبوله العزل, وتخوفه من أن تعود الخلافة حِكراً على بني هاشم.

     من هنا فقد قَرَّرَ عليٌّ رضي الله عنه أن يُوَحِّدَ الأمة تحت إمرته, ولو بالقتال, فتهيأ لأهل الشام غير أنه فوجئ بانتفاض طلحة والزبير عليه, ومعهم عائشة أم المؤمنين؛ فقد حَرَّضها على الخروج ابن أختها عبد الله بن الزبير, والمرجَّح أنه هو الذي حَرَّضَ أباه كذلك, وقد حاول عليٌّ رضي الله عنه أن يثنيهم عن قصدهم, ويذكرهم ببيعتهم, غير أن السبئيين كانوا يرفضون الصلح بين الفريقين؛ اعتقاداً منهم أنه سيكون على رقابهم قصاصاً لعثمان.

     وقد وقعت معركة حامية الوطيس, عرفت باسم معركة الجمل؛ فإن عائشة رضي الله عنها كانت تركب جملاً, ودارت حوله المواجهة, وتمخضت عن عشرة آلاف شهيد من الفريقين, وقد صَلَّى عليٌّ رضي الله عنه على الشهداء جميعاً دون تفرقة.

     ثم توجه تلقاء الشام, والْتقى مع معاوية في منطقة صِفِّين على نهر الفرات, وقد دعا معاوية إلى البيعة, فأبى عليه, وكان لا بد من القتال, وتمخضت المعركة عن سبعين ألف قتيل, وكان من بينهم عمار بن ياسر المبشَّر بالشهادة بسيوف الفئة الباغية, وقد كان في جيش عليٍّ رضي الله عنه, فتأكد أن الفئة الباغية هم جند معاوية, ولما أوشك عليٌّ أن يهزمهم أشار عمرو بن العاص بمكيدةٍ, وهي أن تُرفعَ المصاحف على أَسِنَّةِِ الرماح طالبين التحكيم, وقد أكره أصحابه علياً على النزول عند التحكيم, وكان رأيه أن يستمر في قتال التي بغتْ حتى يكسر شوكتها, وتتوحد الأمة تحت خلافته الشرعية.

     وقد تَمَخَّضَ التحكيم عن الاتفاق على خلعه, وخلع معاوية, وأن يترك الأمر للمؤمنين أن يختاروا ثالثاً يلتئم شملهم عليه, لكن النتيجة كانت استقلال أهل الشام تحت إمرة معاوية, وانحسار الخلافة في العراق والجزيرة, بل قد خرج على عليٍّ اثنا عشر ألفاً من أشياعه, عُرِفوا بالخوارج, فأرسل إليهم عبد الله بن عباس, فناظرهم في إنكارهم مشروعية التحكيم, فرجع أكثرهم, وقاتل بقيتهم؛ حتى أخمد فتنتهم, ليكون مجموع شهداء الفتنة مائة ألف أو يزيدون.

     لذلك فإننا لا نشك أن عبد الله بن سبأ قد أطلَّ من جديد في قطاع غزة؛ لاستدراج الحكومة إلى مجابهةٍ مع هؤلاء المضلَّلين لدرجة تكفير الحكومة, بدعوى عدم تطبيق الشريعة, فيظهر أن الحكومة لا تخاصم العلمانيين والإلحاديين وحدهم, فيسلقونها بألسنةٍ حِداد, وكان الأصل أن يتوجه بأس أولئك الشباب المندفع لمناهضة الاحتلال بدل الانخراط في فتنةٍ لا يستفيد منها إلا الصهاينة.

والله المستعان

اخبار ذات صلة