قائد الطوفان قائد الطوفان

فرنسا تطوي صفحة هولاند: نهاية "رئيس الطوارئ"

الرئيس الفرنسي المنتهية ولايته فرانسوا هولاند
الرئيس الفرنسي المنتهية ولايته فرانسوا هولاند

باريس– الرسالة نت

تقام اليوم الأحد مراسم تسليم السلطة في قصر الإليزيه بين الرئيس المنتهية ولايته فرانسوا هولاند والرئيس المنتخب إيمانويل ماكرون.

يسلم هولاند مفاتيح القصر الرئاسي لمستشاره، وزير اقتصاده السابق، بعد ولاية من خمس سنوات شهدت تقلبات كثيرة وحاسمة وعرفت فيها شعبيته تدنياً غير مسبوق، لتطوي فرنسا بذلك صفحة مهمة من تاريخها، مع رئيس تنقسم الآراء بشأنه، بين من يعتبر أنه ربما يكون "آخر رئيس اشتراكي" بعد انهيار كبير أصاب حزبه، من جهة، ومن يرى أنه كان رئيساً "محترماً" من جهة ثانية، لم تطله فضائح فساد، لكنه نفذ أجندة يمينية في الداخل زادت الضرائب على الفرنسيين، وعرفت ولايته الوحيدة أسوأ الأيام أمنياً بالنسبة للفرنسيين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

أما في السياسة الخارجية، فتعتبر قراءات فرنسية عديدة أن فرنسا فوّتت في عهد هولاند، فرصة من ذهب لملء فراغ تركه انسحاب الولايات المتحدة من مناطق حيوية عديدة، أكان في عهد باراك أوباما، أو في مطلع حقبة دونالد ترامب. 

ومنذ الأشهر الأولى من ولايته عام 2012 تراجعت شعبية هولاند بسرعة ليظهر باكراً أنه سيكون "رئيساً عادياً" في ظروف غير عادية بتاتاً. ففي نفس السنة تراجع هولاند عن وعد أساسي كان تعهد به في حملته الانتخابية يتعلق بمراجعة شاملة للمعاهدات الموقعة بين فرنسا والاتحاد الأوروبي لكي تصب أكثر في مصلحة فرنسا بدل الحليف الألماني.

وكان لهذا التراجع تأثير سلبي قوي في صفوف الرأي العام وأيضا لدى بعض الاشتراكيين أنفسهم الذين اعتبروا هذا التراجع خيانة صريحة.

وفي 2013 أثار إصلاح يجيز للمثليين الزواج كان قد وعد به خلال حملته تحت عنوان "الزواج للجميع"، شرخاً عميقاً في المجتمع الفرنسي، فاحتل الساخطون من اليمين المسيحي المحافظ، واليمين المتطرف، الشوارع الفرنسية لشهور عدة احتجاجاً.

ثم أدت الزيادة غير المسبوقة للضرائب على الفرنسيين والمؤسسات، والتي ترافقت مع خفض في النفقات العامة، الى تصاعد موجة الساخطين على هولاند في الرأي العام وداخل الحزب الاشتراكي. وتبلور تيار يساري جديد داخل الحزب الاشتراكي تحت اسم "الساخطون".

وفي مسعى لمكافحة ظاهرة البطالة المستفحلة، خاصة في أوساط الشباب، اختار الرئيس في منتصف ولايته مطلع 2014 توجّهاً ليبرالياً يمينياً، فاختار وزير داخليته مانويل فالس لقيادة حكومة جديدة، ما أثار غضب التيار اليساري في الحزب، وانشقاق عدد من وزرائه، من أبرزهم وزير التعليم بونوا هامون ووزير الاقتصاد أرنو مونتبورغ.

وكان لهذا الخروج اليساري من الحكومة تأثيرات عميقة وحاسمة على مسار الولاية الاشتراكية لاحقاً. وبلغت الحملة ضد هولاند ذروتها مطلع 2016 مع الحرب الشرسة التي أطلقها "المنشقون" و"الساخطون" ضد مشروع إصلاح قانون العمل، قدمته الوزيرة مريم الخمري، تحت وصاية فالس، ودفع بالنقابات وعشرات الآلاف إلى النزول الى الشارع احتجاجاً.

لكن هولاند أصرّ على تمرير المشروع، وأوعز لرئيس حكومته فالس باللجوء إلى بند استثنائي في الدستور الفرنسي يتيح للحكومة فرض القوانين من دون تصويت مجلسي النواب والشيوخ، وهو ما تم تأويله كممارسة منافية لروح الديمقراطية البرلمانية.

أيضاً، سيذكر التاريخ هولاند كـ"رئيس حالة الطوارئ" التي لطالما ظلّ اليسار الفرنسي يرفضها. فقد أعلن الرئيس حالة الطوارئ، والتي لم تشهدها البلاد منذ حرب الجزائر الاستعمارية (تحديداً عام 1955)، غداة اعتداءات 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 ولا تزال سارية حتى الآن.

وبسبب الاعتداءات الإرهابية وتهديداتها القائمة دخلت فرنسا في مناخ أمني غير مسبوق. وعرفت فرنسا في عهد هولاند أكبر وأسوأ موجة اعتداءات إرهابية أسفرت عن مقتل وجرح المئات.

وكان هولاند قد ألقى خطابه الشهير في قصر فرساي في 11 يناير/كانون الثاني 2015 ودعا فيه للوحدة الوطنية لأن "فرنسا في حالة حرب" كما قال. غير أن هولاند قام بمبادرة مفاجئة ستكون لها آثار مدمرة على ولايته الرئاسية حين اعتزم إدراج بند جديد في الدستور الفرنسي يقضي بسحب الجنسية الفرنسية عن المتورطين في قضايا الإرهاب حتى ولو كانوا من مواليد فرنسا.

وخلق هذا المقترح جدلا عاصفا في الساحة الفرنسية لأنه اعتبر بمثابة محاولة للتفريق بين الفرنسيين واستهداف واضح لحملة الجنسيتين من المهاجرين وأبنائهم من أصول عربية ومسلمة. وبسبب معارضتها هذا التعديل قدمت كريستين توبيرا الوزيرة اليسارية الوحيدة في حكومة هولاند استقالتها من وزارة العدل بعد أن استنكرت هذا التعديل واعتبرته منافياً لمبادئ حقوق الإنسان والثوابت الاشتراكية.

وبعد معارك طاحنة في البرلمان ومجلس الشيوخ ساهم فيها نواب من الاشتراكي ومن اليمين تحالفوا ضد هولاند اضطر هذا الأخير إلى التخلي عن هذا التعديل المثير للجدل. ولاحقاً، خلال الخطاب الذي أعلن فيه التخلي عن الترشح لولاية رئاسية ثانية، أقر هولاند بندمه على هذا المقترح.

أيضاً، تعتبر قضية اللاجئين نقطة سوداء في حصيلة الولاية الاشتراكية الوحيدة للرئيس الوحيد الذي لم يترشح لولاية ثانية طيلة أعوام الجمهورية الخامسة. فمن بين 5 ملايين سوري نزحوا من بلادهم هرباً، لم تستقبل فرنسا، بلد ميثاق حقوق الإنسان، سوى 11 ألفاً منهم في حين استقبلت ألمانيا وحدها أكثر من 650 ألفاً. وخلال اندلاع أزمة اللاجئين وتدفقهم الكبير على بلدان الاتحاد الأوروبي، هاجم رئيس الوزراء مانويل فالس "الكرم" الألماني، وعزز الرقابة على الحدود لاحتواء تدفق اللاجئين.

وقد وعدت فرنسا باستقبال 30 ألف لاجئ سوري وعراقي وإريتري قادمين من اليونان وإيطاليا وتركيا قبل نهاية عام 2017، لكن حتى الآن، لم يصل منهم سوى 3404 حسب إحصاءات وزارة الداخلية، أي 11 في المائة فقط من النصيب الذي حدده الاتحاد الأوروبي لفرنسا لتقاسم أعباء اللاجئين.

كذلك تراجع هولاند عن شعار منح الأجانب حق التصويت في الانتخابات البلدية، وهو ما كان تعهد به خلال حملته الانتخابية. وخلال خمس سنوات كاملة، لم يخصص هولاند لقضية الهجرة سوى خطاب يتيم ألقاه بمناسبة افتتاح متحف الهجرة في باريس في 15 ديسمبر/كانون الأول 2015.

أيضاً، سيبقى هولاند في أذهان الكثيرين بمثابة الرئيس الذي حفر قبر حزبه ودفعه الى هاوية الإفلاس. وبسبب تراجعه عن العديد من الوعود الانتخابية، ساهم هولاند بتعميق الشرخ بين التيارين اليميني واليساري خلال ولايته الرئاسية حين طرد وزيري التعليم بونوا هامون والاقتصاد أرنو مونتبورغ في صيف 2014، واختار مانويل فالس رئيساً للحكومة، وهو ما أشعل الحرب بين التيارين داخل الحزب.

والواقع أن هولاند لم يضع أي استراتيجية على المدى البعيد للمحافظة على تماسك الحزب الاشتراكي لأنه حسب مناهضيه "لا يعرف اتخاذ القرارات ولا فرض سلطته، ويعتمد أساساً على التكتيكات بلا استراتيجيات". وبسبب هذه التكتيكات الظرفية، تعمق الانقسام داخل الحزب، ليجد هولاند نفسه محاصراً من طرف الجميع وعلى رأسهم فالس الذي كان يصر على الترشح للرئاسيات بأي ثمن. ثم قضى مستشاره الشاب، وزير اقتصاده، ماكرون، عليه بالضربة القاضية، بعدما أسس حركة "إلى الأمام" وقرر الترشح بدوره. وهذا ما دفع بهولاند في النهاية إلى التخلي عن الترشح في سابقة هي الأولى بالنسبة لرئيس منتهية ولايته في تاريخ الجمهورية، وذلك لتفادي هزيمة مذلة في تمهيديات الحزب الاشتراكي.

هكذا، يغادر هولاند الإليزيه مثقلاً بالخيبات وعزاؤه الوحيد أنه اكتشف مبكراً مواهب الرئيس الذي سيخلفه عندما وضع فيه ثقته واتخذه مستشاراً خلال حملته الانتخابية في رئاسيات عام 2012، ثم ساهم في رقيه وصعوده عندما فرضه وزيراً للاقتصاد في صيف 2014 على الرغم من معارضة فالس الذي استشعر هو الآخر مبكراً خطر هذا الوافد الجديد الذي لا حدود لطموحاته.

أما في السياسة الخارجية، فلا يبدو إخفاق هولاند، والذي يحلو له استحضار الرئيس الراحل فرانسوا ميتران دوماً، في مرتبة أفضل من فشله الداخلي.

ويسود إجماع على أن الفارق كبير بين هولاند وميتران، وإن كان الموقف الإيجابي من إسرائيل نقطة مشتركة بين الرجلين. حتى في هذه المسألة، تصعب مقارنة ميتران بهولاند. فالأول لم يتردد في إرسال سفينة حربية لإخراج الرئيس الفلسطيني الراحل يسار عرفات من حصار النظام السوري وحلفائه في لبنان، بينما عجز هولاند عن فعل أي شيء، بعد استخدام بشار الأسد السلاح الكيميائي ضد شعبه، أو خلال عمليات الإبادة التي شهدتها مدينة حلب، حتى سقوطها.

ويعترف الرئيس الفرنسي بأنه كان سعيداً جداً يوم 2 فبراير/ شباط 2013، وهو يحيي جماهير غفيرة من الشعب المالي، في مدينة تومبوكتو، وهي تصدح: "تحيا فرنسا، تحيا فرنسا". يصف هولاند هذا اليوم بأنه كان "أهم يوم في حياته السياسية". هكذا، فإن فرانسوا هولاند، والذي كان من بين أول قراراته إعلان الانسحاب من أفغانستان، وجد نفسه "رئيساً حربياً" منذ الأشهر الأولى لحكمه عندما أعلن قراره التدخل السريع في جمهورية مالي، مطلع 2013، ضد تنظيم القاعدة وحلفائه.

ولكن أكبر فشل عاشه الرئيس الفرنسي، له علاقة بالثورة السورية، إذ كانت رغبته صريحة في معاقبة نظام الأسد بعد استخدامه السلاح الكيميائي ضد شعبه. لكن عدول الرئيس باراك أوباما عن توجيه الضربة، جعل الموقف الفرنسي في وضعية صعبة جداً.

ولم يفارق الرئيس هولاند، أبداً، الشعور بالعجز في الملف السوري، خصوصاً أن غالبية الفرنسيين كانت موافقة على الرد الفرنسي. ولا يخفي هولاند أن التاريخ كان سيتخذ مساراً آخر لو أن الحلفاء الغربيين عاقبوا الأسد على تجاوزه للخط الأحمر (خصوصاً بعد استمرار استخدام الأسد للسلاح الكيميائي ضد المدنيين). ووصل غياب الحزم في هذه القضية مستوى آخر، حين نعلم أن الرئيس الفرنسي لم يَقْبل بمقترح "المديرية العامة للأمن الخارجي" باستهداف الرئيس بشار الأسد، بعد ثبوت جرائمه ضد الشعب السوري.

لكن على الصعيد الأوروبي، أظهر هولاند غياباً كبيراً وطموحاً باهتاً، وهو ما يعتبره كثيرون بمثابة "فشله الحقيقي"، ذلك أن فرنسا أظهرت أنها "تابع لألمانيا" في الملفات الأوروبية، وتابع لأميركا دولياً.

وقد جاءت الاعتداءات التي ضربت باريس في نهاية 2015، لتبعث الدفء في علاقات فرنسا مع الجار الألماني، وهو ما سمح لهما، معاً، بإجراء اتصالات مع طرفي النزاع الأوكراني، ونجحا، في فبراير/ شباط 2016، في توقيع اتفاقيات مينسك، لتجميد الصراع، ولو إلى حين.

وقد أدرك الرئيس الفرنسي محدودية دور فرنسا في السياسة الخارجية. فبعد ضمّ الروس جزيرة القرم وأجزاء واسعة من أوكرانيا، كان الردّ الفرنسي، والغربي، هو سلاح العقوبات الاقتصادية.

وبعد القصف الروسي غير المسبوق لمدينة حلب، مرفقاً باستخدام حق الفيتو سبع مرات في مجلس الأمن الدولي لإفشال كل المشاريع الدبلوماسية لوقف إطلاق النار، أشعر هولاند الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي كان ينوي زيارة باريس وافتتاح كاتدرائية أرثوذكسية هناك، بأن زيارته "غير مرغوب فيها".

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، جاء "البريكسيت" البريطاني ليزيد من ضعف الاتحاد الأوروبي، ويجعل من فرنسا البلدَ الوحيد في نادي القارة العجوز الذي يمتلك حق الفيتو في مجلس الأمن.

وأظهر هولاند حزماً كبيراً في الرد على "الحرب الشاملة" التي فتحها المتطرفون ضد فرنسا، من خلال الأوامر الحازمة إلى القيادات العسكرية الفرنسية بشن حرب لا هوادة فيها، بكل الوسائل المتاحة، بما فيها الاغتيالات الخاصة، كما اعترف الرئيس نفسه في "لا يجب على الرئيس أن يقول هذا"، وهو كتاب محاورات مع صحافيين من جريدة "لوموند". ووصل الأمر إلى درجة استهداف المواطنين الفرنسيين المنتمين إلى تنظيمي "داعش" و"القاعدة". ولم تخْلُ هذه العمليات الخاصة من بعض الفشل، خاصة ما يتعلّق بمحاولة تحرير الرهينة الفرنسية، دونيس أليكس، عضو "المديرية العامة للأمن الخارجي"، المحتجز من قبل حركة "الشباب" الصومالية، في يناير/ كانون الأول 2013، والتي انتهت بمقتله إضافة إلى عسكريَيْن اثنين.

في سجل الرئيس الفرنسي 260 زيارة دولية خلال خمس سنوات من الحكم، وربما يكون الإنجاز الأكبر لهولاند، خارجياً، هو المؤتمر العالمي حول المناخ في باريس (2015)، وقد صدر عنه أول اتفاق عالمي حول المناخ وصف كـ"عرس كوني" بات مهدداً اليوم بالطلاق بفعل رغبة دونالد ترامب في إلغائه. كما أن فرنسا نشطت من أجل الوصول إلى اتفاق نووي مع إيران، يخفف من التوتر بين البلدان الغربية وطهران، ويفتح باب الصفقات الاقتصادية الضخمة. وحاول الرئيس الفرنسي هولاند، والذي يعتبر من أقرب رؤساء فرنسا تفهماً للرواية الإسرائيلية للصراع العربي ــ الإسرائيلي، أن يفعل شيئاً لصديقه الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، يكون تتويجاً لإعلان الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ الفرنسيان عن اعترافهما بالدولة الفلسطينية المستقلة، فنظم لقاءات كبرى في باريس أفشلها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، على الرغم من أن هولاند عبّر عن دعمه لإسرائيل في عزّ عدوانها على قطاع غزة.

ويبقى "الإنجاز" العسكري الأكبر لهولاند، إرسال قوات فرنسية إلى 9 بلدان، بتوقيت متزامن، وإنجاز 25 عملية عسكرية في الخارج.

العربي الجديد

البث المباشر