قائد الطوفان قائد الطوفان

ظل الريح والضحك على حافة البكاء

قراءة في رواية ظِل الريح للإسباني كارلوس زافون

رواية
رواية

مجلة 28

 

خليل ناصيف

يقتبس الأستاذ أحمد مجدي همام في تقديمه لرواية ظِل الريح العبارة التالية لميلان كونديرا:

“على كل من يملك القدر الكافي من الجنون ليستمر اليوم في كتابة الروايات، أن يكتبها بطريقة تجعل اقتباسها متعذراً، وبعبارة أخرى، عليه أن يكتبها بطريقة تجعلها غير قابلة لأن تروى”.

 

وهذا ما ينطبق تماماً على رواية ظِل الريح للإسباني العظيم “كارلوس زافون”.

عندما توفي الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو قبل نحو عشرة أشهر (شباط 2016) شعرت بحزن جارف، وقلت إن المجانين نادرون جداً هذه الأيام، ولن يملأ أحد مكان أمبرتو إيكو ملك الوصف، والكاتب الذي ينقل القارئ مباشرة إلى مكان وزمان آخر.

 

لكن عندما قرأت رواية زافون ظل الريح، وجدتني أتعرف على كاتب يملك أسلوباً أخف وأجمل من أسلوب إيكو، مع المحافظة على آلية إيكو الزمكانية التي تنقلك إلى حيث يشاء الراوي، وبكل سلاسة.

ظِل الريح عمل روائي من الطراز الأول، وهي أجمل رواية قرأتها عام 2016. رواية أخذتني بعيداً وجعلتني أضحك بصورة مجنونة أحياناً، ثم في لحظات أخرى أخذتني إلى حافة البكاء!

 

زافون المولود في برشلونة سنة 1964 كتب رواية تدور أحداثها في فترة حكم الديكتاتور فرانكو لإسبانيا، وأجاد في وصف المكان ووصف الحدث، ليس فقط كأنه عاشه بنفسه، بل إنه يجعلك، عزيزي القارئ، تعيشه بنفسك وتتذوقه وتشم رائحته وتشتهيه، وتخاف منه أيضاً، ومنذ بداية الرواية ستشعر بالخيط السحري الذي سيربطك من قلبك إليها، ويجعلك تتابع في ترقب وتمشي بحذر أحياناً، وتركض في أخرى.

يقول زافون في أول فصل في روايته، والذي جاء بعنوان “مقبرة الكتب المنسية”: “لن أنسى أبداً ذلك الصباح الذي اقتادني فيه والدي إلى مقبرة الكتب المنسية. حدث الأمر في أوائل صيف العام 1945، كنا نمشي في شوارع برشلونة التي ادلهمت فوقها سماواتٌ من رماد، وانصبّت الشمس من بين الضباب مثل إكليلٍ نحاسي سائل على حيّ رامبلا دي سانت مونيكا. “إياك أن تخبر أحداً بما ستراه اليوم يا دانيال”، قال والدي، “حتى لو كان صديقك توماس”.

 

“ألا أخبر أمي أيضاً؟” سألته هامساً. تنهّد والدي وارتدى قناع الابتسامة الأليمة التي كانت تتبعه كظله في الحياة: “بالتأكيد”، أجابني مطأطئ الرأس، “ليس لدينا أسرار نخفيها عن أمك يا دانيال. بوسعك أن تخبرها بكل شيء”. ما إن وضعت الحرب الأهلية أوزارها حتى اجتاحت الكوليرا البلاد وسلبت منا والدتي. دفناها في مونتويك، تحت وابل من المطر، ما انقطع ليل نهار، في ذات اليوم الذي أتممت فيه عامي الرابع. كنا أنا ووالدي نسكن في شقة صغيرة في زقاق سانتا آنا، قرب ساحة الكنيسة، فوق مكتبة جدي المتخصصة في بيع الكتب النادرة والمستعملة. أذكر أنني استيقظت وأنا أصرخ في ذلك الصباح من شهر يونيو. كان قلبي ينبض كأنما أراد أن يفتح ممراً في صدري ليهرب منه. هرع والدي فزعاً نحو غرفتي وضمني بين ذراعيه كي يهدئ من روعي. “لم أعد أذكر وجه أمي. قلت بما تبقى لي من صوت…”.

هكذا تبدأ الرواية إرهاصات تشي بعالم يزدحم بالكتب والفجائع، وحين تقلب أوراقها ستعرف أن ما ألمح لك به المؤلف كان حقيقياً بشكل لا يصدّق، حيث أنها رواية تدور حول رواية، ويستمر الطفل في الركض حتى بعد شبابه على أطياف وحقائق وأشخاص للكشف عن حقيقة صاحب الكتاب الذي قام بإنقاذه من مقبرة الكتب المنسية تلك!

 

ما لفت نظري في رواية كارلوس زافون تمكنه من حشد قبيلة كاملة من المجانين في رواية واحدة، بحيث صنع عملاً ممتعاً متشابكاً، يشد القارئ من أول صفحة حتى آخر صفحة في تصاعد درامي للأحداث، وهناك جانبٌ مهمٌ آخر وهو اللغة السردية التي استخدمها الكاتب، حيث تمكن من استخدام الأساليب السردية التي نراها في أدب القرن التاسع عشر، وقام بتقديمها بأسلوب عصري يلائم قارئ القرن الحادي والعشرين، وهي نقطة تسجل لصالحه وتضعه في مصاف كبار الكتّاب، وتجعلني، كالعادة، أندب المستويات البائسة التي يعيشها السرد العربي حالياً، والذي يحتاج بحق إلى تجديد في اللغة والأسلوب والأفكار.

 

يقول النقاد عن زافون إنه يقدم الرومانسية بتوابل بوليسية، وأقول إنه قدّمها بتوابل من الإمتاع والنشوة، ومن لم يقرأ ظل الريح خسر متعةً كبيرةً وتجربة سردية مهمة جداً، وفائدة على صعيد المعرفة، لأن الرواية تفتح نافذة على حياة مجتمع إقليم كتالونيا في إسبانيا في القرن الماضي، وهو مجتمع شبيه بالمجتمع العربي في كثير من الملامح، كما يظهر في الرواية.

أخيراً، من الصعب تلخيص الرواية وتقديمها للقارئ لأنها عمل غني من كل النواحي، وأترك للقارئ مهمة اكتشاف عالم زافون والغرق فيه، وأحذره مسبقاً من أنه سيجد نفسه ممزقاً بين الضحك وبين البكاء على مغامرات ومصائر وكلمات شخصيات زافون.

 

أهنئ كارلوس زافون على هذا العمل العملاق، وأهنئ كذلك المترجم الشاب، الأستاذ معاوية إبراهيم، على نجاحه في تقديم هذا العمل بأبهى صورة، رغم ازدحامه بالصور وبالعبارات الغنية، فكارلوس زافون يكتب السرد محشواً بعبارات لا تليق إلا بشاعر بلغ من الجنون غايته.

تقع الرواية في خمسمائة وأربعين صفحة تقريباً، ولكنها عمل خفيف وجذاب تسهل قراءته، وقد صدرت بالإسبانية عام 2001، وقام بترجمتها من الإسبانية إلى العربية الأستاذ معاوية إبراهيم، وصدرت عن دار مسكيلياني للنشر والتوزيع عام 2016.

 

البث المباشر