وأخيراً، سمح لها بزيارة ابنتها الأسيرة الجريحة لأول مرة، بعد رحلة طويلة من التساؤلات الموجعة، وبعد آلاف الهواجس التي استوطنت قلبها، ترى.. من يعتني بطفلتي؟ من يطبب جروحها؟ كيف تحملت وجع الإصابة وظلمة السجن معًا؟!
في قاعة الزيارة، كانت الدموع هي التي تتحدث، والأيدي تلامس الزجاج لكنها سرعان ما تسقط من الإعياء، فمن خلف الزجاج اللعين، استجمعت الأم قواها وسألت شروق عن إصابتها بصوت مرتجف، ليصدمها جواب شروق: "اوعك تقلقي عليا، ماما لينا معي".
"ماما لينا"
الأسيرة لينا الجربوني التي لم يُكتب لها أن تصافح أكف الصبح في صفقة وفاء الأحرار، كانت للأسيرات أمًا وأختًا وصديقة، حيث لم تكن تتردد يومًا في احتضان أوجاع الأسيرات، خاصة القاصرات منهن، فما أن تصل أسيرة إلى السجن حتى تحتوي وحشتها، وتربت على كتفها، وتعوضها عن غياب أهلها، فتكون لها كل شيء.
عبر اتصال هاتفي تعود أم الأسيرة "شروق دويات" (19) عامًا إلى وقت اعتقال ابنتها، فأخبرت "الرسالة" أن الاعتقال جاء بعد مكوثها ثلاثة أيام في المشفى، ما يعني أنها مدة غير كافية لتتماثل للشفاء.
بصوت حزين تحكي دويات "للرسالة" عن رحلة عذابها، وقلقها على ابنتها، وهي التي لم تكن تعلم أن أمًا حنونًا التقتها طفلتها في الأسر، فاعتنت بها كما لو كانت هي.
في كل زيارة للأسيرات، لا يكاد يغيب عن ألسنتهن "ماما لينا" في حديثهن مع أمهاتهن، فالدور الذي قامت به تجاههن عظيم جدًا، كما تقول دويات.
الطبيبة النفسية
وأدركت الجربوني تأثير الأسر على نفسيات الأسيرات، خاصة المصابات منهن، تمامًا كما أدركت أن عليها أن تكون الطبيبة المداوية لهن ولجروحهن، فساعدتهن على تخطي الأزمات النفسية، بعد أن كن يحتجن جميعهن إلى طبيب نفسي، بحسب دويات.
فقسمت الأسيرات إلى أقسام، وأعطت كل أسيرة مسؤولية معينة، ما من شأنه تعزيز ثقتهن بأنفسهن، مدركة أن ذلك يعيد لهن الحيوية والنشاط.
كما علمتهن أن الأسر يحتاج إلى القوة والشجاعة، حيث رسخت في عقولهن أنه لا مكان في السجن للضعف والاستسلام، حتى أصبحت الأسيرات أوعى وكل يوم يقضينه في الأسر ينهضن بأنفسهن ويرقى تفكيرهن، كما لاحظت دويات وأمهات الأسيرات خلال زياراتهن لبناتهن.
يوم المحكمة
ولعل من أصعب أيام الأسر كما أخبرت دويات "الرسالة" هو يوم المحكمة، فعند الذهاب إلى المحاكم يجب أن تكون الأسيرة على جهوزية تامة الساعة الثانية ليلًا.
فكانت الجربوني تجهز الأسيرات لتلك الرحلة الشاقة، وتعطيهن النصائح سواء وهن بالبوسطة أو في المحكمة، ثم عودتهن من المحاكم والتي تكون في اليوم الذي يليه بعد منتصف الليل، فيجدنها بانتظارهن تقدم لهن الطعام، وتهدئ نفوسهن خاصة من تحمل أحكامًا عالية منهن، وتخفف عنهن صدمة الحكم.
أدق التفاصيل!
ولم تترك الجربوني أي جانب من جوانب الحياة، إلا ووضعت قواعده في أذهانهن، ابتداء من تخطي الأزمات النفسية للأسر حتى تعليمهن الطبخ والتطريز والخياطة والأشغال اليدوية، لحرصها على "تقطيع الوقت" في السجن.
فاحتجاجات كثيرة قامت بها الجربوني وقت تواجدها في السجن، تخفف عن الأسيرات وطأة الأسر، فقد أخبرت "الرسالة" أن من أبرز هذه الاحتجاجات عدم السماح لإدارة السجن بنقل الأسيرات إلى العيادة دون مرافقتها.
فمع كل أسيرة جريحة كانت تذهب لينا إلى العيادة، تشرح للطبيب حالتها كما تفهم منه النصائح التي يجب الأخذ بها لتتحسن صحتها، فساعدتهن في تناول العلاج خاصة إبر التمييع التي تؤخذ بعد إجراء العمليات الجراحية.
ولم تغفل الجربوني أيضًا ترسيخ المبادئ والقيم في نفوس الأسيرات، فقد أدركت أن لكل أسيرة منهن بيئة مختلفة عن الأخرى جاءت منها، فوحدت هذه البيئة لتخلق جيلًا من الأسيرات متوحدًا متفاهمًا، كما جعلت همهن واحدًا وأغراضهن واحدة، حتى تعودن على ذلك وأصبحن يدًا بيد، فالصغيرة تحترم الكبيرة والكبيرة تعطف على الصغيرة منهن وتخفف آلامها.
وفي أدق تفاصيل يومهن، كان للجربوني بصمة، فسرحت شعورهن، وغسلت ملابسهن، وجهزت لهن الطعام واللباس، حتى عاونت الأسيرات المصابات بالاستحمام لصعوبة حركتهن، فشروق أخبرت أمها ذات لقاء "أصبحت طباخة ماهرة يا إمي بفضل ماما لينا" كما تقول دويات.
ذكريات ووجع
وعبر اتصال أجرته "الرسالة" بالجربوني، والتي تنسمت عبق الحرية قبل شهرين، رفضت الحديث عن الدور الذي قامت به تجاه الأسيرات، وأصرت على عدم البوح بكل تفاصيل ما قدمته للأسيرات معتبرة أن هذا واجبها، ولا يجب أن تتحدث عنه كبطولة من بطولاتها.
فمن أكثر الأشياء وجعًا على قلبها، والتي كانت تواجهها الجربوني في مواساتها للأسيرات في المواقف العصيبة، هو معايشتها نفس الأوجاع والآلام، فقد تجرعت من نفس الكأس، وفي ذات الوقت عليها الوقوف بجانبهن والبقاء صلبة أمامهن، كما تقول "للرسالة".
وبصوت حزين تحدث الجربوني "الرسالة" عن أصعب مأزق مرت به، حين أخبرتها إدارة السجن نبأ وفاة والد الأسيرة "هنية ناصر" (23 عامًا)، فكان على لينا إخبارها بطريقة غير صادمة، ومن ثم احتواء وجعها وبث الصبر في نفسها على هذا المصاب الجلل.
ثم تتنهد الجربوني حين تعود بذاكرتها إلى حكاية الأسيرة "لمى البكري" (16 عامًا)، وكيف كانت تعتصر ألمًا لوجعها، حيث كانت ممنوعة من الزيارة لمدة طويلة، فعند عودة لينا والأسيرات من قاعات الزيارة يجدنها على سريرها تبكي بحرقة وقد علا نحيبها، فيجتمعن حولها ويخلقن لها جوًا من الفرح ينسينها حرمانها من رؤية أهلها.
وتضحك الجربوني وتروي "للرسالة" موقفًا يضحكها كثيرًا كلما تذكرته، بعد أن اعتذرت لقطع الاتصال عدة مرات، فقد كانت اتصالات من المحاميات المسؤولات عن الأسيرات، حيث لم تنس قضاياهن بعد تحريرها، وتواصل جهودها ليلًا نهارًا لأجل حل المشكلات التي يواجهنها.
وتقول: "أرادت الأسيرات أن يهيئونني للحياة خارج الأسر في ظل التكنولوجيا، حيث مثلن أمامي "سكتشًا" مسرحيًا عن عجوز اشتاقت لأبنائها، فأرادت أن تعمل "لمة عائلية" لتُستفز العجوز حين اجتمعوا لأن كل شخص فيهم انشغل بهاتفه المحمول، فتغضب هذه العجوز كثيرًا، ثم تبدأ الفتيات بسرد القصص والحكايا لها عن الحياة المعاصرة".
قسوة وحب
لم تنكر الجربوني أنها كانت تقسو على بعضهن لأجل مصلحتهن، قسوة الحب التي تمارسها الأم تجاه ابنتها، حيث كانت الأسيرة "مرح باكير" قد أصيبت بعشر رصاصات في يدها، فأخبرها الطبيب أن يدها ستبقى معطلة لمدة سنوات طويلة.
فحرصت الجربوني على إجبارها على عمل تمارين صعبة لمدة ساعات طويلة، فخلال ثمانية شهور أصبحت يدها سليمة، ليتفاجأ طبيب العلاج الطبيعي وتظهر عليه علامات الصدمة، لم تنسها لينا يومًا كما تقول "للرسالة".
حفلة وداع
"ما بنوعدك" كان جواب الأسيرات يوم الوادع! حين طلبت الجربوني من الأسيرات ألا يبكين عند فراقها، وذلك يوم أن أقاموا لها احتفالاً، "فالفرحة يومها كانت ممزوجة بالألم" بحسب الجربوني.
ويبقى التساؤل حاضرًا في الأذهان كما الأسى الذي يعشنه باقٍ في القلوب.. كيف لا يبكين! وقد تذوقن مرارة اليتم مرتين، فمرة حين غبن عن أمهاتهن، ومرة عندما تركتهن الجربوني يتجرعن مرارة السجن وحدهن!
بنبرة امتنان أنهت دويات حديثها مع "الرسالة": "تبقى شهادتي هذه ناقصة بحق لينا، فما فعلته مع بناتنا كان عظيمًا لا تسعفني الكلمات لذكره".