حرق النفايات.. مخاطر صحية تهدد الجهاز التنفسي والقدرة على الإنجاب

غزة-تحقيق محمد عطا الله

يندب الخمسيني أبو محمد حظه بعد أن أصبح جارا لمكب نفايات عشوائي تنبعث منه الروائح الكريهة بشكل يومي عدا عن القوارض والحشرات الضارة.

أبو محمد الذي يعاني من أمراض صدرية وضيق في التنفس بات يُحكم اغلاق نوافذ منزله دائما؛ تجنبا لاستنشاق الغازات التي تنبعث نتيجة اشتعال مكب النفايات المجاور لمنزله شرق مخيم جباليا، الأمر الذي "زاد الطين بلة"، على حد وصفه.

ويشكو الرجل الذي غزا الشيب رأسه من الكابوس المؤرق الذي يجاوره، مبديا انزعاجه الشديد من غياب الحلول لهذه المشكلة التي باتت تفاقم أزماته الصحية، لا سيما مع تقدمه في العمر.

تلك المعاناة اليومية التي باتت تعيشها مئات العائلات في مناطق متفرقة بالقطاع دفعت معد التحقيق الذي تلقى عشرات الشكاوى إلى البحث والتنقيب وراء أسباب تفاقم هذه الأزمة، وطرق أبواب الجهات المختصة للوقوف على نواحيها.

معاناة مستمرة

ولا يختلف الحال كثيرا لدى المواطن أبو جهاد كلش (57 عاما) والذي يجاور مكب النفايات في مدينة بيت لاهيا شمال القطاع.

ويضطر كلش إلى رش بيته برائحة تطرد الحشرات بشكل أسبوعي إلى جانب إغلاق جميع نوافذ منزله طوال فترة الصيف خشية استنشاق الدخان الناجم عن حرق النفايات ومهاجمة البعوض لأبنائه الخمسة.

بحالة من الغضب والاستياء يُعبر كلش لـ"الرسالة" عن الأوضاع المزرية التي وصل إليها بعد أن تحوّل مكب النفايات الصلبة -المؤقت-والذي لا يبعد عن منزله سوى أمتار قليلة إلى مكب دائم، عقب توقف البلدية عن ترحيل النفايات إلى المكب الرئيسي في جحر الديك على الحدود الشرقية للقطاع.

ورغم تقدم المواطن عمر بدران بشكاوى للعديد من الجهات المختصة إلا أنه لم يجد أي استجابة، مستغربا من استمرار اشعال حاوية النفايات المجاورة لمنزله بجانب مركز شرطة جباليا دون أن تحرك الشرطة ساكنا!

ويؤكد بدران أن اشعال الحاوية تسبب في حرق أسلاك الكهرباء وانقطاع التيار عن جزء من المخيم المكتظ بالسكان، عدا عن الدخان الذي يحمل الغازات الضارة والمسرطنة التي تحمل الأمراض للمواطنين، وفق قوله.

مخالفة القانون

وبحسب قانون الصحة العام رقم (20) لسنة 2004م تنص المادة (40) فيه بأنه يجب على كل شخص المحافظة على البيئة بعناصرها المختلفة، وذلك بعدم التسبب بأي من المكاره الصحية، وأنه يجب إزالة المكرهة الصحية التي تسبب بها، أو كان مسؤولاً عنها.

وفي تقرير بيئي سابق صدر عن مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان، رصدت فيه الانتهاكات بحق البيئة من حيث حرق النفايات الصلبة، في ظاهرة أطلقت عليها "الموت البطيء"، إذ حذرت من حرق بعض المواطنين لحاويات القمامة خاصة في فترات المساء، للتخلص من رائحتها الكريهة، ولطرد الحشرات والقوارض التي تتجمع حولها.

جودة البيئة: حرق النفايات لها مخاطر صحية وبيئية كبيرة كونها تحتوي على مركبات كيميائية سامة

ومن الجدير ذكره أن المواطن في غزة ينتج يوميا ما مقداره كيلو جرام من النفايات الصلبة، ويبلغ إجمالي إنتاج القطاع 1350 طنا من النفايات في اليوم الواحد، وهي نسبة "خطيرة" لو قورنت بحجم ومساحة القطاع.

ذلك الرقم الكبير من النفايات ينتقل إلى مكبات خاصة بالبلديات، منها المهيأ "وفق الأصول"، ومنها ما هو "عشوائي"، ونتيجة تأخر نقل عمال البلديات نفايات المنازل إلى المكبات الكبيرة، يلجأ بعض السكان في الأحياء السكنية إلى إحراق الحاويات وتشتعل النار في المكبات العشوائية.

ووفق التقرير الحقوقي فإن حرق النفايات يتسبب بالعديد من المشاكل البيئية نتيجة عملية الحرق، خاصة أنها تنتج غاز "الديوكسين والفيوران والجسيمات العالقة بالهواء، والتي تؤثر على الجهاز التنفسي والعصبي والبصري للإنسان، وتؤثر في قدرته الإنجابية، إلى جانب تسببها بالسرطانات وخطورتها على الهواء والتربة والمياه الجوفية.

مخاطر صحية وبيئية

ويقر المهندس محمد مصلح مدير دائرة النفايات الصلبة والخطرة في سلطة جودة البيئة بغزة، أن حرق النفايات له مخاطر صحية كبيرة على الإنسان والبيئة كون النفايات تحتوي على العشرات من العناصر والمركبات الكيميائية الناجمة عن المعادن الثقيلة كالرصاص وغيرها.

ويؤكد مصلح في حديثه لـ"الرسالة" أن اشتعال هذه النفايات يؤدي إلى خروج الغازات السامة والخطرة على صحة المواطنين وخصوصاً الأطفال وكبار السن، مشيرا إلى أن عصارة تلك النفايات التي تحتوي على عناصر سامة تتسرب إلى المياه الجوفية وتعمل على تلويث التربة والمياه.

ويضيف "حرق النفايات داخل الأحياء السكنية يؤدي إلى خروج غاز ثاني أكسيد الكربون والديوكسين وهناك مخاطر صحية وأمراض عديدة قد تسببها مثل الحساسية في العيون وأمراض الجهاز التنفسي".

إدارة النفايات الصلبة: آلية تجميع النفايات والتخلص منها تخضع لسياسة الإمكانيات المتاحة

ويُحمل مصلح مسؤولية تراكم النفايات وحرقها إلى بعض المواطنين المستهترين وقصور بعض البلديات في الجانب الإداري والفني، منوهاً إلى أنهم في سلطة جودة البيئة يعتبرون جهة رقابية فقط، مؤكدا في الوقت ذاته متابعتهم لهذه القضية بشكل كبير وإجراءهم لعمليات مسح ميداني مستمرة للمكبات ونقاط التجميع العشوائية.

وخلال عدة جولات ميدانية أجراها معد التحقيق، تمكن من رصد ما يزيد عن 10 مكبات عشوائية يتم إشعال النيران فيها بصورة دائمة في منطقة شمال قطاع غزة الذي أخذناه كعينة في هذا التحقيق، إلى جانب تحول مكب نفايات مدينة بيت لاهيا المؤقت إلى مكب دائم دون ترحيل النفايات منه.

 إمكانيات محدودة

هذا الأمر دفعنا إلى طرق باب مجلس إدارة النفايات الصلبة شمال قطاع غزة، وهناك قابلنا المهندس وحيد البرش مدير المجلس، الذي أكد أن آلية تجميع النفايات والتخلص منها تخضع لسياسة الإمكانيات المتاحة لديهم.

ويوضح البرش أن قلة الإمكانيات لدى مجلسهم الذي يضم أربع بلديات وهي بيت لاهيا وجباليا وبيت حانون وقرية أم النصر، دفعهم لتسريح ما يقارب 50% من العمال لديهم، إلى جانب تحويل المكبات المؤقتة لدائمة نتيجة العجز.

وأضاف أن طريقة التخلص من النفايات المعتمدة لديهم هي التجميع والطمر، مقرا بأن هذه الطريقة لها مخاطر جسيمة على التربة ومياه الخزان الجوفي، نتيجة ترسيب عصارة النفايات لباطن الأرض وتسببها بالتلوث.

وأشار البرش إلى أن كميات النفايات التي ينتجها شمال غزة يوميا قرابة الـ350 طنا من المحافظة، لافتا إلى أن عملية اشعال النفايات في المكبات الرسمية التابعة لإدارته تتم بصورة غير مفتعلة وذلك نتيجة تفاعل غاز الميثان مع أشعة الشمس عند عملية الطمر.

وبيّن أن اشتعال النفايات تسبب لهم حالة من الأرق الدائم وتستنزف قدراتهم، عدا عن تسببها بالعديد من الأمراض والمشاكل البيئية، محملا مسؤولية اشعال النفايات في المكبات العشوائية لبعض المواطنين.

وشدد على منعهم إشعال النيران في المكبات والحاويات، وأنهم يتابعون هذا الأمر دائماً، ومضى يقول: "من يخالف من المواطنين يتم تحرير مخالفة له، وفي الآونة الأخيرة جرى تحرير قرابة 10 مخالفات في بلدية بيت لاهيا لوحدها خلال أسبوع فقط".

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فقد اشتكى العديد من المواطنين جنوب قطاع غزة من اشعال المكب الرئيسي على الحدود الشرقية بصورة يومية، بالإضافة إلى اشتعال النيران في مكب المخصص للنفايات في قرية جحر الديك.

منع وملاحقة قانونية

ويؤكد المهندس عبد الرحيم أبو القمبز مدير عام الصحة والبيئة في بلدية غزة، أنهم يمنعون بشكل صارم أي محاولة لإشعال النيران في مكبات النفايات، ويتم التحقيق مع الموظف أو المواطن وتحويل الفاعل لمحكمة البلدية لاتخاذ الإجراء القانوني بحقه.

ويوضح أبو القمبز أن بلديته استحدثت شعبة المخالفات والمكاره الصحية التي تتابع هذا الأمر عن كثب حيث يجرى رصد 200 مخالفة مكرهة صحية متنوعة شهرياً لدى بلديته.

بلدية غزة: نمنع إشعال النيران في مكبات النفايات، ونحرر 200 مخالفة مكرهة صحية متنوعة شهرياً

ويضيف " بلدية غزة تهتم بموضوع إدارة النفايات الصلبة والمحافظة على البيئة، وتنتج المدينة يوميا من النفايات الصلبة 700 طن يتم تجميعها وترحيلها ومعالجتها والتخلص منها بشكل يومي".

ويتابع أبو القمبز " رغم منع الاحتلال دخول شاحنات متخصصة لجمع النفايات الصلبة، إلا أننا تغلبنا على هذا الأمر بتشغيل 230 عربة كارو لجمع النفايات من المدينة".

ونوه لحرص بلديته على ترحيل ونقل جميع النفايات التي يتم تجميعها من المدينة بنفس اليوم وتحويلها إلى مكب النفايات الرئيسي في منطقة جحر الديك جنوب مدينة غزة، مردفا " لا تهاون في موضوع المكاره الصحية بمختلف أنواعها، ونحن لدينا نظام معتمد اسمه المكاره الصحية ونطبقه بحذافيره".

ويستقبل مكب جحر الديك يومياً قرابة 1000 طن من النفايات، حيث يخدم 8 بلديات، وهي "غزة والزهراء والمغراقة وجباليا وبيت حانون وبيت لاهيا وقرية أم النصر والشاطئ".

مواد سامة

معد التحقيق حمل هذا الملف ووضعه على طاولة وزارة الصحة بغزة، وفي هذا السياق يقول سامي لبد مدير دائرة الصحة والبيئة في الوزارة، إنهم تلقوا العديد من الشكاوى بسبب تكرار حوادث حرق النفايات في الأحياء السكنية وتسببها بمكاره صحية للمواطنين.

ويشير لبد إلى أن الأصل أن يتم ترحيل النفايات بشكل يومي وعدم إبقائها في المكبات المؤقتة، لتفادي اشتعال النيران فيها التي تكون بصورة غير متعمدة نتيجة تفاعل الغازات، أو متعمدة من المواطنين الذين يتحملون جزءا من المسؤولية، على حد تعبيره.

ويؤكد أن حجم الاضرار الصحية الواقع على صحة البيئة والمواطن نتيجة حرق النفايات الصلبة كبير، مرجعا ذلك إلى أن الدخان الناتج عنها يحمل مواد عضوية وسامة ومسرطنة تؤثر على جهاز التنفسي عند المرضى وبالذات الذين يعانون من أزمة في الصدر.

خبير بيئي: حرق النفايات ينتج مواد سامة تترسب للتربة والخزان الجوفي

ويضيف لبد "بجانب ذلك تكون مرتعا للحشرات والقوارض والرائحة الكريهة التي تزعج المواطنين القريبين من تلك المكبات".

ويتفق د. سمير حرارة رئيس قسم البيئة وعلوم الأرض في الجامعة الإسلامية مع سابقه، منوها إلى أن حرق تلك النفايات ينتج مواد سامة تترسب في التربة والخزان الجوفي وتلوثهما وتضاعف تركيز أملاح النترات فيها بشكل عال؛ مما قد يؤدي إلى الإصابة بالسرطانات.

ويوضح حرارة أن اشعال المكبات وحرقها يعتبر من المخاطر العالية جداً على صحة الإنسان أيضا كونها تنبعث منها غازات سامة وغازات الديوكسين التي تضر الإنسان وتلوث الهواء.

ويؤكد أن التخلص من النفايات يجب أن يتم بصورة علمية سليمة بحيث يتم الاستفادة منها في إنتاج الطاقة والكهرباء والغاز والتدفئة المنزلية كما يجري في الدول الأوروبية.

وينصح رئيس قسم البيئة وعلوم الأرض بأن يتم فرز النفايات في حاويات متنوعة تفصل كل نوع عن الآخر والاستفادة من المواد العضوية في الزراعة بعد معالجتها بطريقة خاصة.

وبالعودة إلى سلطة جودة البيئة فإن مدير النفايات الصلبة فيها يوصي بضرورة تطبيق العقوبات على المواطنين المخالفين، كون أن إدارة النفايات الصلبة عملية تكاملية.

ويلفت إلى ضرورة تطوير إدارة النفايات والبحث عن طرق بديلة في التخلص من النفايات، بحيث يتم إعادة تدويرها والاستفادة منها مرة أخرى.

وفي نهاية المطاف فإن الوقوف على هذا الأمر والبحث في معالجة النفايات الصلبة هو ضرورة مُلحة لتجنب الأضرار الناجمة عن تراكمها ومحاولة الاستفادة منها في مناحي الحياة المختلفة.

البث المباشر