في العام 2015 وعقب عدوان صيف 2014 حذرت الأمم المتحدة بأن غزة قد تصبح غير قابلة للحياة بحلول عام 2020، تزامن الإعلان مع بدء تحضيرات القمة الإنسانية العالمية التي عُقدت في اسطنبول مايو 2016 بحضور أممي كبير، وفيما أعلنت الأمم المتحدة والبنك الدولي أنها استطاعت تحقيق نجاحات كبيرة على مستوى محاربة الفقر وتحقيق اختراق كبير على مستوى تقليل نسبة الفقر المدقع إلى أقل من 10% نتيجة نمو اقتصاد منطقة شرق آسيا، إلا أن الدول العربية التي تشهد الصراعات عموماً وفلسطين على وجه الخصوص لم تلمس أي تغير يُذكر في هذا الإطار وبقيت مؤشرات الحياة الاجتماعية والاقتصادية في التدهور ووصلت إلى مرحلة غير مسبوقة من السوء تُهدد منظومة المجتمع ككل.
خمس سنوات منذ التحذير الذي أطلقته الأمم المتحدة عن أن غزة غير قابلة للحياة في العام 2020 فما الذي فعلته المؤسسات الأممية والدولية والعربية لإنقاذ غزة مما ينتظرها في العام 2020.
حسب تقرير سابق لوزارة الداخلية في قطاع غزة فإن أعوام 2013، 2014، 2015 قد بلغ مجمل ما قامت بانفاقه 846 جمعية خيرية، و 88 مؤسسة أجنبية في قطاع غزة مليار ومائتي وخمسون مليون دولار بخلاف المؤسسات التي لا تُقدم تقاريرها لوزارة الداخلية الفلسطينية والتي منها 9 مؤسسات أمريكية، يُضاف لها المؤسسات الأممية لا تخضع لرقابة وزارة الداخلية الفلسطينية.
فيما ذكر تقرير عبر المركز الفلسطيني للإعلام في يوليو 2017 بأن المؤسسات الأهلية الفلسطينية في قطاع غزة – دون الأجنبية – قد بلغ إجمالي إنفاقها حسب العام المالي الحالي مبلغاً وقدره 137,316,102 دولار، تركز معظمه على العمل الإغاثي والإجتماعي.
رغم معدلات الإنفاق والتبرعات التي وصلت وتصل إلى قطاع غزة إلا أن حالة الفقر لم تتراجع بل وصلت إلى 65% فيما ارتفعت نسبة البطالة إلى 43% وقفزت نسبة انعدام الأمن الغذائي إلى 72% فيما أضافت إجراءات السلطة الفلسطينية الأخيرة ضد غزة فقراء جدد على قوائم فقراء قطاع غزة.
لماذا لم تنجح المؤسسات الأممية والدولية وحتى الأهلية بتحقيق نجاحات على صعيد محاربة الفقر وتغيير واقعهم بشكل جذري؟
لا يخلو شهر في غزة من ورشة عمل أو مؤتمر في فندق فاخر بتكلفة معتبرة يتحدث عن احتياجات وأولويات الفقراء في قطاع غزة وأولوية التدخل في القطاعات المختلفة، ثم تخلص الورشة أو المؤتمر لتدخلات لا علاقة لها باحتياجات حقيقية تلامس الميدان وواقع الحال، وتجد أن معظم الأموال القادمة تذهب لمؤتمرات تثقيفية وأنشطة توعوية وبرامج تدريبية تُعقد في قاعات فاخرة يُدعى لها طلبة وخريجون لا يجدون قوت يومهم وأجرة المواصلات لقاعة تدريبهم الفاخرة ويُراد لهم أن يناقشوا مستقبلاً وحقوقاً تقع في قمة هرم ماسلو فيما لم يُحصلوا قاع الهرم، فتنهار أحلامهم على عتبات البرامج المعدة المراد تنفيذها بغض النظر عن أهميتها والاحتياج لها ومدى ملائمتها لأولوية المدعوين لها.
عشرة ملايين دولار هى موازنة مخيمات ألعاب الصيف التي تُقيمها الأنروا وتستهدف 165 ألف طفل عبر أنشطة “مرح ولعب”، معظم هؤلاء الأطفال يعيشون تحت خط الفقر المدقع ومعظمهم لا يتمتع ببيئة سكنية لائقة ومعظمهم لا يتمتعون بخدمات صحية أو تعليمية مناسبة، قد يستمتع الطفل في هذه المخيمات لمدة 14 يوم ولكنه يحيا 351 يوم في حياة متناقضة تماماً وفي صورة قاسية فهل حققت ألعاب الصيف أهدافها؟ أم كان الأجدى تحويل هذه الموازنات للخدمات الأساسية في قطاع غزة؟
تنشط المؤسسات الدولية تحديداً في تقديم مشروعات وبموازنات غير منطقية ولا تقع ضمن أولويات الشعب الفلسطيني إلا أنها تلامس كلمات رنانة يتغنى بها المجتمع الدولي فعلى سبيل المثال وصلني مقترح مشروع مقدم من مؤسسة دولية أجنبية عاملة في قطاع غزة لتدريب عدداً من موظفي وزارة في قطاع غزة فيما يتعلق بأنظمة الشفافية والنزاهة والمتابعة بمبلغ يفوق النصف مليون دولار كان أكثر من 300 ألف دولار من موازنته تتعلق بتعين مستشار أجنبي و6 موظفين محليين ومنسق مشروع، فيما بلغت المصروفات المقترحة للتدريب 53 ألف دولار والمصروفات التشغيلية ذات العلاقة بالتدريب ما يقارب 113 ألف دولار ونسبة مقطوعة 40 ألف دولار، وتكرر الأمر من نفس المؤسسة لمشروع آخر لوزارة أخرى بقيمة 800 ألف دولار بذات النسب تقريباً، نموذج للمقاربة المتعلق بهدر المال العام البعيدة عن الاحتياج الحقيقي للمواطن الفلسطيني ويُسجل التبرع باسمه.
لم تنجح غزة حكومة ومؤسسات محلية ودولية من تصفير مشكلة واحدة في حربها على المشكلات التي تؤثر بشكل مباشر على المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية في قطاع غزة، ولو أن المال القادم لغزة على قلته نتيجة ظروف الحصار الحالي تم توجيهه لتصفير مشكلة حقيقية بدلاً من عشوائية التوزيع والتخطيط لكان أجدى.
وعلّ مشكلة السكن اللائق لأكثر من 5370 عائلة تحيا في بيوت من البلاستيك والأسبست وبين جدران آيلة للسقوط، ومشكلة 120 ألف خريج عاطل عن العمل دون مصدر دخل، لو تم التركيز عليهما بشكل حقيقي وجدّي قد نتلافى كثير من المشكلات الاجتماعية والسلوكيات غير السوية التي بدأت تنخر جسد المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة.
والسؤال هل يمكن للمؤسسات المحلية التي نجحت في جمع ما يقارب من 137 مليون دولار من اقناع مانحيها وتوحيد خطابها لتوجيه هذه التبرعات لإنهاء اشكاليات حقيقية؟ وهل تستطيع المؤسسات الدولية التي سارعت لافتتاح مكاتبها عقب عدوان 2008/2009 على غزة من الالتزام الأخلاقي لحل الإشكاليات الحقيقية بدل ترف البرامج والمشرعات المنفذة؟
تستطيع المؤسسات المحلية فعل ذلك إن قامت بتفعيل التعاون المشترك الذي تتجنبه حتى اللحظة وتتواجد فيه شكلاً لا مضمونا، خوفاً من الافصاح عن مصادر تمويلها أو المشاركة في مصروفاتها التشغيلية، وإن وجدت حكومة تُقنعها بالعمل المشترك وفق خطة استراتيجية وطنية.
تستطيع المؤسسات المحلية والمؤسسات الدولية والأممية إن عادت لمربع أهدافها الأول في خدمة الفقراء والعمل لأجل إنهاء مشكلاتهم بدلاً من التركيز على الحفاظ على وجود المؤسسة وتوفير الرواتب والامتيازات لموظفي المؤسسة.
غزة تستطيع أن تعيش وأن تقدم أنموذجاً في حب الحياة إن تجازوت مؤسساتها المحلية والدولية تقليدية المشروعات المنفذة وركزت على البعد التنموي الإبداعي وراعت احتياجات المستهدفين، وعل تلك المؤسسات مدعوة لجواب سؤال مهم لما ينجح القطاع الخاص في مشروعاته فيما تفشل المشروعات الخاصة بالعمل الخيري.
علنا بحاجة للتفكير بشكل استثماري والعمل بشكل خيري، وعلنا بحاجة للعمل مع الفقراء لا تقديم المساعدات، علينا التفكير بطرق أكثر حداثة في التعاطي مع المشكلات وبعيداً عن الانبهار بالأفكار الخارجية التي قد لا تناسب الميدان أو قد لا تصلنا عنها معلومات كاملة حقيقية غير الأخبار البراقة غير المعبرة عن حقيقة الجوهر والفعل.
ولربما علينا ممارسة ضغط على المؤسسات الدولية أنه آن التحرك وفق أولوياتنا كأهالي قطاع غزة، ووفق احتياجات مواطنينا في المناطق الحدودية والمهمشة، ولربما علينا أن نعقد ورش العمل المتعلقة بالأولويات والاحتياجات تحت الشمس الحارقة على الحدود الشرقية أو تحت أسقف منازل شبه منهارة أو في بيت عائلة من بلاستيك حتى تتضح الصورة أكثر؟ ولربما علينا التواصل مع الأمم المتحدة ومطالبتها بتحقيق تغيير حقيقي في قطاع غزة وفق أهدافها التنموية 2030
ولربما علينا التجديد في الخطاب الإعلامي الخيري الإنساني الذي يُركز على البؤس والبكاء والمعاناة ويتجاهل الأثر والصورة وضدها والمستفيد الرمز، والفرق الذي يصنعه التمويل، وايجاد آليىة لطمأنة المانحين على خط سير تمويلهم الذين باتوا يخشون القمع والاتهام نتجية الحرب العشوائية على الإرهاب، المصطلح الفضفاض الذي بات يُستخدم لأغراض سياسية بعيدة عن المهنية.
كل ما سبق لا يعني أن المؤسسات لم تقدم شيئاً ولم تساهم في التخفيف من أعباء الحياة اليومية للمواطنين ولكنها تستطيع فعل أكثر مما تفعله الآن شرط التجديد، التعاون، الاتحاد، التوافق على أن سبب وجود المؤسسات تغيير واقع الفقراء لا مصدر رزق للعاملين فيها.