لم يَتَقبل الطفل "باسم" ابن الخمسة أعوام أن يستبدلوا وجود والده في حياته بصورة عُلّقت على جدران المنزل ذُيل أسفلها "الشهيد المجاهد خليل باسم الدمياطي"!
طيلة الثلاثة أيام من عزاء والده يطلب باكيًا من جدته " شيلوا صورة بابا عن الحيط"، ذاك الطفل الذي حمل اسم والده بعد خمس سنوات من الانتظار، فلم يتمكن الشهيد خليل استكمال علاج زوجته، أو توفير الدفعة الأولى من عملية "أطفال الأنابيب".
خليل 32 عامًا هو النجّار والسبّاك والقصّير، "سبع صنايع" وعدة ألقاب حظي عليها في حياته، الا أن "الشهيد المجاهد" هو اللقب الخالد بعد استشهاده بانهيار نفق خلاله مهمة جهادية لكتائب الشهيد عز الدين القسام.
ابتسامة ومِعول!
اتسعت له تلك الفجوة في باطن الأرض، يبدو بأن خليل أدرك جيدًا بأن في باطن الأرض حياة، فكان الإيقاع بالنسبة له طرقات منتظمة بمعوله في أنفاق المقاومة، وكانت الخاتمة هناك!
خليل البكر بين اخوته "سبعة اناث وشقيقين"، ووالدة ما فتئت تقاطعنا بالقول " الحنون يمه .. الله يرحمك".
استقبلتنا ابتسامة خليل على مدخل خيمة العزاء في حي الشيخ رضوان غرب مدينة غزة، وصِبية يرددون ترانيم النشيد "يقولون مات .. فكيف سنوقف حزن المآذن حين تنادي صباحاً عليه .. ولا يستجيب"، لن يستجب خليل أيضًا لصباحات طفله باسم، ولن تملأ فراغات يدي الصغير بأصابع والده متجهين صوب الروضة .. لقد مات فعلًا!
لن نتمكن من إحصاء المرات التي نطق فيها خليل الشهادة أثناء عمله في باطن الأرض، وكذلك لن يكن سهلًا على طفله باسم استيعاب وجه والده الذي بات أزرقًا مائلًا للسواد حين فاضت الروح وامتص وحده غضب الأرض!
أرملة الشهيد اسمها اسلام في أواخر العشرين من عمرها، لم تسقط مرة واحدة بفاجعتها، فقد علّمها خليل قبل رحيله أن تردد وقت البلاء:" اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرًا منها".
" أول مرة ما حكيتله الله يسهل عليك قبل ما يطلع على الشغل" يؤنبها ضميرها.. تبكي ثم تعاود لتبتسم لأجله وحده وهي تقول:" لما رجع محمول على الأكتاف حكيتله الله يسهل عليك يا خليل".
الساحرة المستديرة وشنطة الروضة!
غرفة وصالة صغيرة تغطيها ألواح "الزينقو"، نافذتين كان قد صنعهما الشهيد من النايلون، وباب منزله عبارة عن لوحين من الخشب، فعليًا ستدرك بأنه لا شيء مُبهج في بيت الشهيد خليل سوى حقيبة صغيرة حمراء اللون كان قد اشتراها لروضة ابنه باسم!
كثيرًا ما تمنى خليل لو امتلك ثمنًا لهدية يقدّر فيها عطاء زوجته وصبرها على حياته وغيابه عن البيت، تخبرنا اسلام وهي تبتسم هذه المرّة:" طلب مني أجيب الجوال وأقرأ اسمي، ما فهمت كيف يعني راح تكون مفاجأة باسمي".
استهانت اسلام بطلبه وحين بحثت عن اسمها بقائمة الأسماء لديه وجدته قد حفظه باسم "الزوجة الصابرة"!
تعي جيدًا بأنها باتت الأرملة الصابرة هذه المّرة، ومن حولها النساء المعزيات بزوجها، وفي حضنها أثرٌ جميل تركه لها يتقاسم واياه الملامح!
قطعت حديثنا احدى شقيقات خليل وهي تطلب من اسلام تزويدها بزجاجة عطر لوالد الشهيد، ردت اسلام مشددة:" بس رجعوها؛ تعت خليل".
خليل الذي لم تسحره الدائرة المستديرة والتي شغفه حبها، وكان نادي الهلال بمنطقة الشيخ رضوان شاهدًا على براعته بكرة القدم، جذبته الأرض الى باطنها، فأدمن رائحة التراب ولم تزعجه ساعات العمل الطويلة أو رطوبة المكان كذلك!
اشربي قهوتي يمه!
بين راحتيها فنجان قهوة مُرًة، سوداء اللون كردائها والحاضرات، تبتسم أم خليل وترتشف قهوتها وتقول:" كان دائمًا يقلي يا رب يطول عمرك يمه وبتشربي قهوتي"، خليل الذي كانت تدعو له أمه بأن يأخذ الله من عمرها ويعطيه له كان يرد عليها بهذا الدعاء، فكان القدر وكانت قهوة خليل!
تعود والدته بالذكريات يوم أن عرف خليل بحمل زوجته بعد طول انتظار، تعود الى قطعة السكاكر التي كان يفضلها ولم يتمكن من توزيعها على المهنئين لضيق الحال، تشير الى مدخل بيتهم وتقول:" طلع من البيت كله، كان فرحان ومكسور الخاطر، ما كان قادر يوزع حلوان ابنه".
كادت تود أن تخبرنا بكل تفاصيل ابنها البكر، حتى أنها أخبرتنا عن آخر عشرين شيكلًا كان قد أعطاها إياها صبيحة عيد الأضحى، لاسيما وأنها كانت المرة الأولى التي تقبل منه "العيدية".
"نفس الزفة ونفس الجنازة" هكذا ربطت بين المشهدين:" يوم عرسه كان باص الزفة بغنولوا حمساوي ما يهاب الموت، وبيوم جنازته كانت نفس الأنشودة، خليل بطل الله يرحمه.. ربنا اختاره".