الحاجز

ph[.
ph[.

موقع القصة العربية القصيرة

 

محمد جعفر

هنا يخمد الشوق قليلاً وتهمد الروح على أمل لقاء قريب. تستكين هواجسه بعدما وطئت قدماه أرض الوطن أخيراً، رغم أنّ في الصحافة أخباراً بلون الشؤم لا تبشر بخير.

خرج من المطار في جو تكتسحه البرودة والرطوبة. أشعل سيجارته الأولى، ثم حمل رأسه إلى السماء يتأملها، وكانت تدفع إليه بإحساس خفي يبثه أن الحال لن يلبث كذلك، وأن هناك عواصف آتية سيكون مسرحها الليل بطوله. واستطاعت نجمة قطبية اكتشفها معلقة في السماء وحيدة أن تبدّد بعضاً من مخاوف نفسه المثقلة.

 

استقل سيارة أجرة كان صاحبها صموتا على وجه غريب. لم يسأله إلّا عما اعتبره ضروريا. أين يريد أن يذهب؟ أين يريد أن ينزل؟ وحتى عندما بدا مستاءً لما ذكر له العنوان، فإنه لم يتأخر في حمل حقيبته والدفع بها إلى صندوق السيارة الخلفي.

كان واضحا أنه مشغول بمراقبته مع ذلك. هذا ما لاحظه عليه طول الطريق. ضبطه ينظر إليه عبر المرآة العاكسة أكثر من مرّة، حتى إذا حاول مواجهته كان السائق يرتد ببصره غير قادر على الثبات.

 

حاول أن يخمّن ما وراء نظراته، لكنه ما لبث أن انشغل عنه بتأمل المدينة. راح يتابع تفاصيلها من خلف الزجاج كمن يدعي معرفتها. تستفزه الذكريات وهي تعود إليه ضاجّة فكأنها لم تخفت يوما، وإن ظلت ملامحه جامدة وكأن لا عاطفة تأسره، فيبدو لا هو فرح بالعودة ولا هو متأسٍ بها.

كان يعتقد أنه يجازف بعودته. وكان لا يني يسأل نفسه هل ما زال هناك من يذكره؟ وهل سيتعرّفون عليه؟ وواضح أنه قريبا سيقف على أجوبة لأسئلته الكبرى، والتي ظلَّ يردّدها ما ينيف على ثلاثين سنة، هي المدة التي قضاها في ديار الغربة.

 

عاش في وهم أنه مغضوب عليه. مطارد ومنفي. حتى إذا جرب العودة جرت الأمور بسلاسة ومن دون معوقات. لم يلفت اسمه أحداً. لا شركة الطيران ولا شرطة الحدود وكأنه بات اليوم مجهولا لدى الجميع. كما أنّه لم يعرف هل عليه أن يحزن لذلك أم يسعد؟ ثم ألم يكن هذا ما يعوّل عليه من أجل عودة ميسورة ومن دون منغصّات؟

كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل عندما توقفت سيارة الأجرة أمام حاجز عسكري للمراقبة يقوم على مشارف المدينة القديمة. وكان الجوّ لا يزال بارداً، وأخذ العسكري ينفخ في يديه يدفئهما وهو يطالبهما بالوثائق. وراقب أوراقه مدققا فيها ثم تفحّص وجهه بعناية، وأردف:

ـ يجب الحذر. كان هناك إطلاق نار قبل قليل..

وهتف السائق: ـ ربما عليَّ ألّا أتقدم أكثر.

كفاه ما قام به لأجله كزبون. سأله عن أجرته، ونقده إياها مع إكرامية مناسبة ثم نزل دون أن ينقم عليه محترما فيه خوفه. ونزل السائق في أثره ليدفع له بحقيبته. وبعدما فعل ركب وأقلع كمن يهرب.

 

أشعل حينها سيجارته الثالثة. وراح يحرقها وهو يتقدم باتجاه المدينة القديمة. لكن ما إن تقدم بضع خطوات حتى انتبه لصوت جهوري يطالبه بالتوقف. كان ذلك صوت العسكري نفسه الذي دقّق في أوراقه. هذا ما قدَّره.

التفت متوجسا. كذلك سيطر عليه الرعب لأوّل مرة وهو يرى العسكري يتقدم نحوه بخطى سريعة وسلاحه باتجاهه. تصلب ووقف موتوراً. لم يعرف كيف يتصرف. وتساءل هل عليه أن يرفع يديه دليلا على مزيد من الامتثال؟

حين صار بينه وبين العسكري مسافة خطوتين، طالبه هذا الأخير بأن يرمي سيجارته. واستجاب من دون تفكير. رماها يتنصل منها بينما عفسها العسكري بكعب حذائه وقام بسحقها، وبعدها خاطبه قائلا:

ـ الآن يمكنك الذهاب..

الآن أصبح في الأتون. ليس خائفا وإن اعتراه التردّد وهو يطرق دربه القديم الذي لا يزال على عهده به مضعضعا وتالفا.

لا شيء يموت، وكل شيء يبقى لابداً هناك في العمق ينتظر فرصته. هذا ما يؤمن به وهذا ما يراه. وهو وإن ظلَّ طول مدّة غربته مشغولا بأن يبرّر لنفسه أسباب هجرته، فإنه سيجد نفسه مضطرا ـ وبعدما عاد ـ لأن يبرر للآخرين أسباب عودته.

كانت قد بدأت تمطر. ومضى في خطوات متعجلة ومرتبكة هذه المرة. وقام يترصد أدنى حركة غادرة يمكنها أن تأتيه من الظلمة التي تكتنف المكان من حوله. ظلمة تشبه حكايته الباقية.

 

* كاتب جزائري

البث المباشر