بهية النتشة.. امتدادُ "ماهر" وصدى صوته من زنزانته

بهية النتشة.. امتدادُ
بهية النتشة.. امتدادُ

الرسالة نت -ياسمين عنبر

تناولا فنجان القهوة الصباحي الذي اعتادا عليه على وقع الحديث الذي كانا يعتبرانه مفتاح النهار لهما كي يبدأ كل منهما يومه وأعماله، فانتهى اللقاء وقاما يجهزان نفسيهما وكل قد وضع قائمة أعماله لذلك اليوم.

لم تكن المفاجأة أن ينادي عليها ماهر ويخبرها بأنه وضع وصيته في مكان معين من غرفتهما، فقد اعتادا أن يكتب كل منهما وصيته ويخبر الآخر ألا يفتحها إلا عند فراقه، لكنها كانت في أنه طلب منها أن تحلف يمينًا بأنها لن تفتحها إلا حين يفارق الحياة، وأحكم إغلاقها من جميع الجهات.

غضب كبير سكن قلب "بهية" إذ كانت حياتهما قائمة على الثقة التي لا يستطيعان وصفها، وخوف أكبر فكيف يطلب منها ماهر أن تحلف يمينًا، وما الجديد في هذه الوصية، وماذا بعد هذا اليمين، ولماذا أصر ماهر عليها ألا تفتحها !!.

دوامة كبيرة عاشتها "بهية" لدقائق، بعد أن وعدته بعدم فتحها، ثم سرعان ما ذهب كل منهما إلى أعماله، ولم يكن تنفيذ عملية استشهادية آخر توقعاتها بل لم يكن في قائمة الاحتمالات أساسًا، رغم كثرة الهواجس التي جاءتها فهذا الخاطر لم يأت على بالها بتاتًا.

تروي "بهية النتشة" زوجة الأسير ماهر الهشلمون الذي لقب بالأسير المبتسم حكايتهما، وتعود إلى المشوار الذي بدأ منذ ثلاث سنوات، وما زال مستمرًا حين عادت إلى يوم تنفيذ ماهر لعملية "عتصيون"، والذي لُخص في صورة تجمعهما سمح الاحتلال بها.

"بس حبيت أذكرك" ترجع "بهية" إلى آخر مكالمة لماهر معها، حيث كانت بعدما غادرها بعشر دقائق، وقد كانا سويًا في مشوار يجلبون أغراًضًا للبيت، غير أن اتصالًا استقبله "ماهر" وغادرها بعد إخبارها أنه اتصال عمل.

تقول: "استغربت جدًا من اتصاله حيث اتصل بي ليذكرني بشيء غير مهم وكنا قد تحدثنا به قبل دقائق"، لتدرك فيما بعد أنه كان اتصالًا "ليسمع صوتها للمرة الأخيرة".

تيقنت "بهية" من تنفيذ زوجها عملية استشهادية وراحت تتذكر كيف أنها ما فتئت ساعتها تردد "الحمد لله" رغم صدمتها الكبيرة بفعل ماهر، فقد كانت قناعاته بتنفيذ عملية بمفرده مخالفة لما حدث".

فالغرابة كما تحكي لـ"الرسالة" أن ماهر لم يكن يقتنع بتنفيذ عملية وحده، لكنه كان دومًا يقول: "إذا هب شباب فلسطين معًا فسأكون في أوائل الصفوف، ومن المستحيل أن أتخلف عن واجبي الوطني وقتها".

"عرفته من جاكيته" تقول بهية، وهي تحاول أن تجمع حروفها، ثم تتبعثر ثانية، فتستمسك قواها، وتضيف: "لم يعلنوا عن اسمه على القنوات الإخبارية ولكني عرفته من شكله ولبسه وهو ملقى على الأرض".

مواراة بين الجالسين في بيتهم، عند تجمعهم وقت سماعهم الخبر، مع ابتسامات غريبة منهم وهم يشاهدون فيديو حاولوا إخفاءه عن "بهية"، ما أثار فضولها، حيث كانت متيقنة أنه يخص عملية "ماهر" فأصرت عليهم بعد رفضهم أن تراه، تقول "الكل استغرب من قوة تحملي بأن أشاهد بصلابة اللحظات الأخيرة لزوجي وهم يعلمون قصة عشقي وماهر".

"كنت أعشق ماهر لكني بعد وصيته عشقته أكثر وأكثر" هكذا وصفت "بهية" شعورها حين بدأت تتجول في ثنايا وصيته، التي لم يترك أمرًا إلا وقد ذكره فيها حتى أدق التفاصيل.

تحكي "بهية" بفخر كبير "أنا امتداد لماهر"، امتداد لذلك الرجل الذي أصبح أسيرًا خلف القضبان، بعد فترة كبيرة قضاها في أروقة المستشفى، ثم تنقل بين عدة سجون كان أسوأها مكوثه في "مسلخ الرملة" كما تصفه، وهو يقبع الآن في سجن ريمون.

بصوت مرتجف تخبر بهية "الرسالة" أنها تحتاج إلى ساعات طوال، وإلى مجلدات أيضًا كي تصف حياة زوجة الأسير ومعاناتها، وهي التي لم تتوقع يومًا أن تحمل لقب "زوجة الأسير" وأن تعيش هذه التجربة، رغم أن ماهر سجن قبل ذلك وهو في السادسة عشر من العمر، ولكن الموضوع كان بعيدًا عنها، "لم أكن أتخيل يومًا أن أخوض الحياة وحدي بدونه".

"أنا امتداد لماهر" هذه العبارة التي اشتهرت بها "بهية" حيث ترى أنها أكملت مسيرته من بعده، وغرس حب الوطن في طفليهما، كما أنها توصل صوته من داخل السجون، وتحاول جاهدة أن توصل للعالم معاناة الأسرى في زنازينهم كما الصعوبات التي يواجهها أهالي الأسرى.

كما تعتبر نفسها امتدادًا ل "ماهر" حين تظهر للناس الذين تلتقيهم وأولادها بأنها سعيدة به وفخورة كل الفخر بزوجها الذي ترك الدنيا وعجل إلى الجنة، وأنه "برغم كل ما يعانونه إلا أنهم سيبقون مثالًا للتفاؤل وللأشخاص الذين يتفاعلون مع مجتمعهم، والمبتسمين دومًا رغم الأمل" تحكي.

مريم وعبادة كانا ثمار زواج بهية بماهر واللذين تعيش معهم "بهية" معارك أسئلتهم ومخاوفهم وهواجسهم وحدها، ف "مرحلة الأسئلة معهم لا تنتهي طالما يكبرون ويفهمون الحياة أكثر، ويواجهون مواقف جديدة كل يوم".

تعود إلى موقف ابنتها مريم حين جاءتها وأخبرتها بكثرة اشتياقها لأبيها، وأنها تريد رؤيته وقتها، فتواجه "بهية" هذا الموقف وتستطيع تجاوزه معها بصعوبة كبيرة، لأنها في كل مرة تعيد الكلام نفسه بالأمل والتحرير.

تكمل وهي تضحك: "في يوم قلت لهم إني جهزت لهم مفاجأة وسآخذهم إلى بيت جدهم، ولأن تفكيرهم كله بأن المفاجآت تتعلق بخروج أبيهم، قالوا لي: "مفاجأة يعني بابا"، فخربت المفاجأة لانها كانت بسيطة".

ورغم كل ما واجهته بهية وما زالت بعد أسر ماهر، إلا أنها تيقن أن أسره "محنة ومنحة" لكليهما، فكل موقف أو كل زيارة فيها من المعاناة ما فيها، فإن المنح التي يحصلون عليها تكون أكبر.

مواقف كثيرة فيها من المعجزة الكثير تتحدث عنها "بهية" بسعادة كبيرة تتسرب من صوتها، وقد كان أعظمها في نظرها أن جسد ماهر لفظ رصاصة المحتل، حيث إن هناك رصاصة بقيت في جسده تحتاج إلى عملية جراحية كي تخرج، ليجد ماهر أن جسده قد أخرجها دون إجرائها.

عدا عن أن ابتسامتها وماهر التي كانت دهشة لكل من رآهما، لا سيما في أروقة المحاكم بعد أن حكم القاضي بمائتي عام وغرامة مالية كبيرة، لتأتي ابتسامته قاهرة لكل من كان حاضرًا حين ردد "القدس في العيون نفنى ولا تهون".

لم تكن تتخيل "النتشة" أن الزجاج اللعين بينهما سيزال في يوم من الأيام، لالتقاط صورة في دقائق معدودة، وأن مشوارًا كبيرًا ستتلخص مشاعره في صورة وثلاث دقائق.

هذا اللوح الزجاجي الذي يحول دون تقبيل الأسير لكفي أمه التي ما فتئت ترفعهما في لجأة لله ذات سحر بأن يعيده إلى حضنها، وهو نفسه الجدار الذي يحول دون أن يطبع الأسير قبلة على جبين زوجته، وهي تنتظر أن تصبح سلاسل القيد عقد فرح في جيدها ذات لقاء لهما في سماء الحرية.

فاصل زجاجي يراه الأسير وذويه أنه جدار كبير يحول بينهم وبين أحبتهم، قد أزيل يوم أن سمحت إدارة سجن ريمون للأسرى المتزوجين أصحاب المؤبدات بالتقاط صورة مع زوجاتهم.

"وقت الصورة عبارة عن حلم" هكذا وصفت "بهية" الدقائق الثلاث التي سمح لها الاحتلال فيها بالتقاط صورة وسط ضجيج المشاعر التي تلخصت فيها، تقول: "تحديت الزمن وقتها فمشاعر الثلاث سنوات سألخصها في نظرة وصورة وعناق".

كما أن التحدي للمكان كان حاضرًا وقت التقاط الصورة كما تقول "بهية"، فاستهزاءات الجنود كانت معهما في المكان كما استخفافهم الذي كانوا يطلقونه بضحكة ساخرة من عناقها لماهر، "ما كان منا إلا أن قهرناهم بابتسامتنا التي تحدث عنها الجميع بعد انتشار الصورة".

بصعوبة بالغة وصفت مشاعرها قبيل الصورة وبعدها، فقد شعرت أن خليطًا من المشاعر قد أجبرت على مزجها سوية، تتنهد "بهية" بعد صمت خلال حديثها مع "الرسالة" :" هذه الصورة كانت ملخصًا لمشواري أنا وماهر بعد أسره".

سعادة كبيرة سكنت قلب "بهية" بعد حصولها على هذه الصورة، رغم كثرة الصور التي تجمعها بماهر قبل أسره، وختمت حديثها "قد يخطب الله ودك في صورة".

البث المباشر