الرسالة نت - لمراسلنا
ليس أجمل من ذاك المنظر شيء على الإطلاق، دالية صيفية تتوزع على فناء المنزل القديم وتغطي القبة الذهبية بشبكة أوراقٍ خضراء تتمايل مع هبوب نسمات ما قبل الغروب، والأعشاب المتنامية بين أحجار القدس لا تزيدها إلا عراقة، وأزهار الياسمين المتطايرة تجذب القلب قبل العينين، وعبق الأرض المباركة يشد الروح قبل كل شيء.. لأنها القدس.
لكن هناك لا يمكن أن يبقى شيء على حاله، فسلوان أضحت "مدينة داوود"، وبطن الهوى أمسى "حارة اليمن"، والبراق الطاهر أصبح "حائط المبكى"، وقدس الأنبياء تحولت إلى "أورشليم"، والأقصى المسرى سمّي بـ"جبل الهيكل"، وحتى الأزقة الآن ملأى بالحاخامات والجنود.. في القدس لا يبقى شيء على حاله، فالابن الأكبر شهيد، والأوسط أسير، والصغير مبعد، والوالدان مكلومان، والابنة الوحيدة تلملم ما تبقى من ألعابها بعد تسوية المنزل بالأرض.. هكذا الحياة هناك لا تعرف السكون إلا بين جرحيْن.
*أحلام في الهواء
"أريد أن نبقى في بيتنا، أن نكبر فيه ونظل نلعب حوله دون أن نرى يهوديا واحدا، هل كثير علينا؟"، كيف نقنع طفولة أحمد ابن العشر سنوات من بلدة سلوان أن مطامع الاحتلال في بيته والأرض المبني عليها أكبر من أحلامه الخضراء، فمنزل ذويه المكون من طابقين ليس يساوي عندهم إلا مبنى عشوائياً يجب استبداله بحديقة للترفيه عن أطفال المغتصبين!
ويقول أحمد بجرأة ممزوجة بالخوف لـ"الرسالة نت ":" نحن كنا نائمين، وفجأة سمعنا طرقات على باب المنزل وإذا بهم أفراد شرطة الاحتلال يقولون لوالدي إن منزلنا يجب أن يهدم ومنذ ذلك الحين ونحن غير سعداء ونخاف أن يهدموه في أي وقت".
وهذا الكابوس الذي يهدد حياة المقدسيين أصبح واقعاً في كثير من الحالات، فغالباً ما يستيقظون في ساعات الفجر على صوت هدير الآليات بدلاً من صوت الآذان أو هديل الحمام، وعادة ما تتسابق الجرافات لهدم المنازل دون سابق إنذار أو حتى إخطار بذلك، ولا تمهل أصحاب المنزل إلا دقائق معدودة للخروج منه دون اصطحاب أي غرض شخصي وإلاّ..!
وهي الأحلام ذاتها التي هدمتها جرافات الاحتلال للشاب عبيدة في بلدة بيت حنينا حين انهار بيت عائلته في لحظات يوم الثلاثاء، حتى إذا حاول اصطحاب بعض الملابس قبل عملية الهدم باغته عناصر شرطة الاحتلال بالضرب والتنكيل والإهانة.
ويضيف:" ليس لنا منزل سواه، لا أدري أين سنذهب، ورغم أننا استأنفنا على قرار الهدم في المحاكم وما زالت القضايا سارية إلا أن الاحتلال يفاجئنا في كل وقت ويهدم المنازل دون إنذار".
*لمحة قانونية
وكي لا تغيب أروقة المحاكم عن هذه المواضيع كان للمقدسيين الدور الصعب في متابعة ملفات هدم منازلهم داخل محاكم الاحتلال، ولكن تبين لهم أنها الوجه الآخر له دون أدنى شك.
فيقول المواطن هاني الرجبي من بلدة سلوان:" ألصقوا لي أمر هدم لمنزلي فالتجأت فوراً للمحكمة، وفي البداية تظاهرت بأنها متعاطفة معي وجمدت أمر الهدم ولكنني تفاجأت في اليوم التالي بقوات الاحتلال تستعد لهدم المنزل، وحين التجأت لها مرة أخرى قالوا لي بأن بيتي غير مرخص ويستحق الهدم!".
وتقودنا الحكاية إلى قضية الترخيص وعدمه، فأي منزل ذاك في القدس يستطيع أصحابه أن يرخصوه؟، وتلك الكلمة أضحت كابوسا بالنسبة لهم أكثر من أي شيء، فيوضح المواطن جواد أبو رموز من حي البستان المكلوم بأن منزله كان بحاجة إلى ترخيص وعندما تقدم بطلب لذلك أخبرته محكمة الاحتلال بأنه يجب أن يدفع غرامة إذا أراد أن يستبدل الترخيص، وبقي لعدة سنوات يدفع غرامة أثقلت كاهله، ومن ثم أصدرت المحكمة ذاتها أمراً بهدم منزله رغم كل ذلك.. بحجة عدم الترخيص.
ويقول مواطن آخر من الحي:" يعرقلون لنا التراخيص ويفرضونه بمبالغ باهظة لا نستطيع أن ندفعها أو حتى نؤمن ربعها، ومن ثم يهدمون المنازل بحجة عدم الترخيص، كيف لنا أن نعيش هكذا؟".. وهذا هو الهدف، أن لا يعيشوا هناك وأن يلملموا جراحهم ويخرجوا من أرض بادلتهم الثبات كي يحل الحاقدون الماكرون المحتلون مكانهم.
*حقائق
"حان الآن العمل من أجل خير المدينة" كلمات قليلة في مظهرها قالها رئيس بلدية الاحتلال في القدس نير بركات عقب فوزه في الانتخابات لترؤس البلدية، وما هذا الخير الذي يقصده إلا اقتلاع كل مقدسي من أرضه وتجهيز المدينة لتكون يهودية فقط.
ويقول معهد الأبحاث التطبيقية "أريج" إن "إسرائيل" حولت الآن وجهتها إلى القدس بقصد الانتقام و القضاء على الوجود الفلسطيني، وتثبيط الروح المعنوية للضغط على الفلسطينيين للرحيل من مدينتهم، وفي إحصائية للمعهد تبين أن خلال الفترة ما بين 2000 و 2008 هدمت بلدية الاحتلال ما يزيد عن 550 منزلا فلسطينيا في القدس، أما خلال العام 2009 كثف رئيس بلدية القدس المنتخب من حملته العنصرية ضد المنازل الفلسطينية ’غير الشرعية’ في القدس و استأنف حملة هدم المنازل، و تبعا لذلك قامت البلدية بهدم 88 منزلاً فلسطينياً في مدينة القدس و إخطار ما يزيد عن 900 منزل بالهدم بحجة البناء غير المرخص مقارنة مع 234 أمر هدم في العام 2008 و 207 أمر هدم في العام 2007, الأمر الذي يبين نية الاحتلال المبيتة لرئيس بلدية الاحتلال بالقضاء على الوجود الفلسطيني في المدينة.
وفي سعيها الواضح و الصريح نحو تهويد القدس، اختلقت حكومة الاحتلال قوانين عدة ونفذت سياساتها العنصرية ضد المقدسيين وبذلت جهدا كبيرا في الضغط على الفلسطينيين القاطنين في مدينتهم, و تمثل ذلك في مصادرة 43% من الأراضي الفلسطينية في مدينة القدس لبناء المستوطنات وتصنيف 40% من أراضي المدينة كمناطق خضراء حيث يمنع البناء الفلسطيني فيها، وتخصيص 6% من الأراضي الفلسطينية في المدينة للطرق و البنية التحتية، وإبقاء 7% من مساحة الأرض غير مصنفة، كما تم تجميد 3% من مجموع مساحة الأراضي بينما تم تخصيص 10% من الأراضي للفلسطينيين للبناء و التطور!
**الرد الوحيد
وأولئك لا يملكون سلاحاً ولا عتاداً ولا قوة ولا دعماً.. يتشبثون بصبرهم ويتسلحون بصمودهم ويرتكزون على ثباتهم ويتوكلون على خالقهم ليبقوا شوكاً في حلق الاحتلال لا يمكن أن يخرج مهما حدث.
ويقول المواطن أحمد جبارين:" يريدون أن يخرجوننا ووالله لن نخرج إلا أمواتا، يريدون أن نرحل ولن نرحل إلا جثثاً، سيعرفون معنى هذا الكلام حين نبقى لهم كالصخر لنتزحزح مهما حدث"، وتزيد على ذلك فاطمة النجار:" هم جاءوا بعدنا بمئات السنين ويزعمون ان الأرض لهم ويتحكمون بنا، ولكن أنى لنا أن نرحل أو نهاجر، هذه مدينتنا وأرضنا كيف نتركها؟".
أما الأطفال فأصبحوا يكبرون على كلمات الثبات، فينبهر السامع لهم من صغر سنهم وكبر كلماتهم، ويقول الطفل معاذ:" لن نخرج من القدس مهما أصدروا بحقنا أوامر هدم أو حتى هدموا فعلاً، أو أصدروا قرارات إبعاد، كل هذا لن يخيفنا لأنها أرض مقدسة لن نتركها لهم".