في العشرين من نوفمبر كل عام تدرك أنه كان يجب على معلمة اللغة العربية في فلسطين أن تخصص دفترًا تسميه "مصطلحات طفولية في فلسطين" بدلًا من الكراسة الخاصة بتلخيص قصص الخيال الطفولية وأفلام الكرتون يُعَنونُ بِ "دفتر التذوق الفني"، كما كان على معلمة الرياضيات أن تهمس في آذاننا أن الأرقام أحيانًا موجعة، والاعتراف بها عند البعض "مرفوض"، وعلى أستاذ العلوم إخبارنا بأن الجرح يلتئم دون دواء، وأن كسر عضو قد يجبر وحده دون الحاجة إلى طبيب، ويمكن لرصاصة أن تلفظ نفسها خارج الجسد دون إجراء عملية جراحية.
يحدث ذلك كله في ذهنك حين تحاول أن تكتب قصص القاصرين خلف جدران الزنازين، فتشعر بالعجز أمام معاناتهم، حتى في وصفها، وحين تبكي أم الأسير وتقول لك: "طفلي مش مجرد رقم"، أو تحكي: "منعوه من العلاج والأدوية"، وعندما تسمع أحدًا يتغنى بالقوانين الدولية التي وضعت لحماية الأطفال.
"أنا مش مجرم"
فشريط طويل من الذكريات ومؤلم أيضًا يمر في هذا اليوم أمام ناظري أم الطفل المقدسي "شادي فرَّاح" (13 عامًا)، حيث يرتد صدى صوت ابنها حين صرخ من خلف الزجاج في أول زيارة له "احكي لكل العالم يمة إني مش مجرم"، عدا عن انكسار عينيه الذي ينم عن معايشته وجعًا أكبر من عمره بكثير.
تروي أم الأسير "فرَّاح" لـ"الرسالة" تفاصيل الحكاية، واصفة طفلها في أول زيارة له في السجن، تقول: "صدمة كبيرة أصابتني عندما رأيته أول مرة فقد كانت عيناه منكسرتين وجسده كان هزيلًا جدًا"، حيث رأيته بعد رحلة تحقيق "عصيبة" كما تصفها.
وفي يوم ميلاده الثالث عشر، كان "شادي" على موعد مع محكمة تعرض لوائح التهم الملفقة إليه، فحرصت الأم على رفقة أصدقاء له ليحضروا المحكمة، تحكي: "أدخلوه الحراس إلى المحكمة المركزية في القدس فحضنته بقوة وأصدقاؤه بدؤوا يغنون له أغنية عيد الميلاد"، واصفة الموقف "بالمؤثر والموجع" وذلك حينما أبعدوا "شادي عنها" وأرجعوها إلى الخلف وجروه إلى المكان المخصص لجلوس الأسير.
لم يكن طلب "شادي" من أمه "احكي للعالم إني مش مجرم" كوعود الأمهات المؤجلة لأطفالهم، تقول: "في كل مكان أتحدث عن قضية الأسرى الأطفال، ليس عن ابني فحسب فكثير من أهالي الأسرى وكلوني بالتحدث باسمهم وعن أوجاع صغارهم".
وتضيف: " في كل المحافل أصرخ بوجعهم ولم أترك مؤتمرًا إلا وأقول فيه عن الظلم الذي وقع على شادي".
"ابني صار راجل بالسجن"، تتلعثم أم شادي رغم طلاقتها التي كانت ملاحظة قبل قولها لهذه العبارة، فالأمهات جميعًا يشعرن بسعادة لا توصف حين يقول لهن أحد "ابنك صار شب"، ولم تستطع تحديد شعورها وقتها أثناء حديثها مع "الرسالة".
فكيف ستشعر بالفرح حين تلحظ أن شارب ابنها بدأ يخط على وجهه البريء، ووقت رؤيتها لابنها وهو يقفز عن مرحلة الطفولة ليصبح "رجلًا"، ولم يعش طفولته كباقي أطفال العالم، وأنه يقف على "بلاطة الطبخ" في الزنزانة بدلًا من أن يجلس أمام "البليستشن" يمارس هواياته، وأنه حرم ركوب فرسه الذي يحب، واقتيد بالبوسطة مقيد الرجلين واليدين، كما يقف في طابور رفقائه في الزنزانة لغسل وجهه صباحًا من "حنفية" صدئة بدلأ من الوقوف في طابور المدرسة.
"يوم طفل عالمي"!!؟ تقولها تضحك قهرًا، ضحكة الاستنكار مع سؤال يحوم في خلدها يوميًا " هل من المعقول أن الأسرى الفلسطينيين الأطفال يمكن أن يحسبوا حين يذكر عدد أطفال العالم"!؟، تسترسل بوجع كبير: "كنت أتمنى أن يأتي هذا اليوم وأنا أرى شادي يشق طريقه إلى حلمه بأن يصبح مهندسًا".
تختم والدة "فراح" حديثها مع "الرسالة" أن صورة طفلها تلاحقها طوال الوقت وهو يرتجف بردًا، في أحد المحاكم وهو يشير إليها أن تطلب من سجانه السماح له بارتداء أي قطعة ملابس فوق "البلوزة الرقيقة" التي كان يرتديها، كما قطرات الدم التي لمحتها قد سالت من أحد رجليه حين شدوا عليه الوثاق وجره الجندي بقسوة عند دخوله المحكمة.
وجه "ملاك" وفوهة بندقية
لم يكن هناك لزوم للطفلة "ملاك" أن تستمر في قراءة الروايات والقصص الأدبية وتنمية موهبة القراءة لديها خلال مشوار التفوق الدراسي، حين أصبحت طفولتها راوية لكن ليس لقصص خيالية تحبكها بإتقان لجذب القارئين لها، حيث أصبحت حكاية "وجع" حقيقية روتها بنفسها، مستحضرة كل عناصر الزمان والمكان والحبكة والصراع وما يميزها أنها رواية ذات "نهاية مجهولة"!
ملاك الغليظ (13 عامًا) من مخيم الجلزون شمال رام الله، وهي تصنف بأنها أصغر أسيرة في سجون الاحتلال، رأت نفسها أمام مجموعة جنود يحاصرونها وفوهات بندقياتهم قد وجهت نحو وجهها البريء، وقد روت حكايتها لمحاميتها التي نقلتها لأهلها.
قالت: " هجموا عليا الجنود على حاجز قلنديا ورشوا عليا غاز الفلفل فأنا وقتها وقعت عالأرض، وقيدوا ايديا للخلف بأسلاك قاسية، ونقلوني على غرفة حديدية ضليت فيها ساعات"، هذه الساعات تصفها بالمؤلمة تعرضت خلالها للتفتيش المهين والاستفزازي، وأخضعت للتحقيق الميداني.
بعد ذلك تم نقل "ملاك" إلى مركز تحقيق وزجها بالممر، متعرضة هناك للاستفزاز ولا أخلاقية الجنود الإسرائيليين، الذين استمروا بسبها وشتمها لأكثر من أربع ساعات، عدا عن ضحكاتهم المستفزة ثم نقلت إلى زنزانة القاصرات في سجن الهشارون.
بتهمة رشق الحجارة وحيازة سكين أوقف الجيش الإسرائيلي "ملاك" وهي عائدة من طريق مدرستها في قرية بتين قرب رام الله، حيث قدمت يومها آخر امتحان لها في المدرسة قبل عام تقريبًا، تحكي والدتها لـ"الرسالة" وهي تعود بذاكرتها إلى يوم أسر "ملاك": "تأخرت يومها عن البيت فسكن القلق في قلبي ووضعت كل الاحتمالات ولم أتوقع أبدًا أنها تعرضت للاعتقال"، ليصل خبر للعائلة ساعات المساء أنها أصبحت أسيرة في معتقلات الاحتلال.
كل قائمة الأحلام التي نسجتها والدة "الغليظ" مع ابنتها قد انقلبت رأسًا على عقب، حين أخبرتها المحامية أن ملاك بحاجة إلى علاج نفسي بعد خروجها من السجن، تقول لـ"الرسالة": "أحيانًا أشعر أني بكابوس سأستيقظ منه في يوم من الأيام".
"ملاك" التي ارتدت الحجاب في السجن تغيرت هي الأخرى كما أجندة الأحلام، والتي لفقوا لها تهمًا لا تمت بالطفولة ولا ببراءة وجهها أي شيء، تأخذ دور المواسي لأهلها، بدلًا من أن تتلقى دعمًا منهم، تحكي والدتها: "كانت هي التي تواسيني في المحاكم وفي الزيارات ودائمًا تقول لي كوني قوية يما".
وتضيف: "حين أراها مكبلة اليدين والرجلين وحولها الجنود أشعر بأني أتمنى لو أتحول إلى نمر مفترس أنقض عليهم أسرق طفلتي من بين أيديهم"، عدا عن قهرها لحرمان "ملاك" من تعليمها وهي المتفوقة في مدرستها.
"بدي أصير محامية أدافع عن حقوق الأطفال"، استغربت والدة "ملاك" حين باحت لها بهذا الشيء من خلف الزجاج، فحلم دراسة "الطب" كان يراودها منذ صغرها، لتدرك وقتها أن الظلم الذي تعرضت له طفلتها قلب كل موازينها، تقول: "الكل حكالي أعرض ملاك على مرشد اجتماعي يهتم فيها بعد تحريرها".
وفي كل زيارة تطلب "ملاك" من والدتها أن تشتري لها مريولًا مدرسيًا، أملًا في عودة قريبة إلى المنزل، لتفاجأ أنه في كل محكمة يتم تمديد اعتقالها، مع تأخير أحلامها في رجوعها إلى مقاعد الدراسة، وتضيف: "ملاك تغير شكلها كثيرًا في السجن فوجهها دائمًا شاحب وفقدت كثيرًا من وزنها ودائمًا يبدو عليها التعب والإرهاق رغم محاولتها إخفاء ذلك أمامنا".
وفي رسالة لملاك أرسلتها مع محاميتها، اشتكت "ملاك" من المعاملة السيئة الفظة التي لا تليق بطفولتها، من قبل قوات النحشون أثناء نقلها في البوسطة على المحاكم، عدا عن سوء الأوضاع في غرفة الانتظار في قاعة المحكمة ليأتي دور دخولها.
400 طفل اغتيلت براءتهم
ليس شادي وملاك فحسب، ف 400 طفل فلسطيني يعيشون ظلم الاحتلال خلف جدران زنازينه العالية، مغتالة بذلك 400 حلم في ظل تغني العالم بقوانين تحمي الطفل، ووسط تغييب أطفال قاصرين خلف غياهب السجون.
بعواء السجانين ورش المياه على وجوههم إيذانًا بانتهاء موعد نومهم، والقيام لعد الصباح، يستقبل 400 طفل فلسطيني اليوم العشرين من نوفمبر كل عام، في ظل طقوس يومية بعيدة كل البعد عن الحياة التي يحياها الأطفال في العالم ووسط حرمان لأبسط حقوقهم، و"لا حياة لمن ينادي".
ويتعرض الأطفال الأسرى في السجون الإسرائيلية لأبشع أساليب التنكيل والتعذيب وخاصة في سجون التوقيف والتحقيق، حيث يحتجزهم الاحتلال في غرف صغيرة وبأعداد كبيرة، ويبتزهم ويضغط عليهم للارتباط معه وإسقاطهم في وحل العمالة، بعد تهديدهم بالسجن لفترات طويلة أو نسف المنزل واعتقال الأهل، والاعتداء عليهم بالضرب المبرح، والهز العنيف، وتقييد الأيدي والأرجل وعصب الأعين، واستخدام الصعقات الكهربائية، والشبح، والحرمان من النوم، والضغط النفسي، والسب والشتم.
كما يعاني الأطفال الأسرى من ظروف احتجاز قاسية وغير إنسانية تفتقر للحد الأدنى من المعايير الدولية لحقوق الأطفال وحقوق الأسرى، فهم يعانون من نقص الطعام ورداءته، وانعدام النظافة، وانتشار الحشرات، والاكتظاظ، والاحتجاز في غرف لا يتوفر فيها تهوية وإنارة مناسبتين، والإهمال الطبي وانعدام الرعاية الصحية، ونقص الملابس، والحرمان من زيارة الأهل والمحامي، وعدم توفر مرشدين وأخصائيين نفسيين، والاحتجاز مع البالغين، ومع أطفال جنائيين صهاينة، والتفتيش العاري، وتفتيش الغرف ومصادرة الممتلكات الخاصة، وكثرة التنقل وفرض الغرامات المالية الباهظة ولأتفه الأسباب، والحرمان من التعليم.
أساليب كثيرة تتبعها سلطات الاحتلال يكون هدفها إرهاب الأطفال وتدميرهم نفسيًا وجسديًا، وزرع الخوف والجبن في نفوسهم لإضعافها، عدا عن أن الاحتلال يحكم على كل طفل يحاول رشق الحجارة على جنوده من 10 إلى 20 سنة سجنًا، في محاولة منهم لإيقاف الثورة في قلوب الأطفال الفلسطينيين.
وللأسرى الأطفال المرضى والمصابون حكاية أخرى مع الظلم الإسرائيلي، إذ يعانون من ظلمة السجن ووجع الجسد أيضًا، في ظل إهمال طبي يتعرضون له، ما أدى إلى زيادة المرض بينهم.
فليس من لائحة قوانين مصلحة السجون السماح لأطباء مختصين الاطمئنان على حالة الأطفال الأسرى الصحية والنفسية، ويبقى السؤال: "كيف يسمحون للأطباء وهم السبب في كثير من الأمراض التي تنتشر في زنازين الاطفال!" حيث انتشار حالات التسمم ازدادت، كما حدث عندما سجلت 10 حالات بالتسمم بين الأطفال الأسرى في سجن "تلموند"، نتيجة تناولهم لوجبة معلبات فاسدة قدمتها لهم إدارة السجن.
ويصادف اليوم العشرين من نوفمبر كل عام، يوم الطفل العالمي، في ظل ضرب الاحتلال لكل قوانين حماية الطفل بعرض الحائط، وفي ظل إعدام ما يقارب طفولة "400" أسير يعانون الأمرين خلف قضبان سجون الاحتلال.