لا تمل يده اليمنى من القبض على المقص والأخرى من تحريك المشط برجفة فوق رؤوس زبائنه، ليرسم في نهاية المطاف قصة شعر، تروي حكاية مهنة وصلت حد العشق مع صاحبها العم أبو سليمان الذي ورثها أبًا عن جد.
وفي مكان لا يتجاوز الأربعة أمتار يحتفظ الخمسيني جمال السوسي بكل تفاصيل محله القديم قرب مفترق الشجاعية شرق مدينة غزة، متمسكًا بإرث كبير تركه أجداده ووالده ليكمل هو ذات الطريق، كما يروي لـ"الرسالة نت".
ومع تعامد أشعة الشمس التي أذابت عبارة "صالون الورود للرجال" والتي خُطت على لوح صاج معلقة فوق محله، كان صوت المقص وحده الطاغي عندما قابلنا أبو سليمان وهو يحلق لأحد زبائنه فيما كان ينتظر الآخر على المقعد المقابل.
" لم أتجاوز الثانية عشر من عمري عندما بدأت أمارس مهنة الحلاقة وكنت منذ صغري أنتظر بشغف اليوم الذي كان يصحبني فيه والدي إلى صالون جدي الذي ورثته وما زلت أعمل فيه منذ ما يزيد عن 43 عامًا"، وفق السوسي.
ومع تجفيف رأس أحد زبائنه الطاعن في السن بيديه، يضيف الرجل الذي اجتاح الشيب فروة رأسه بأن مهنته لم تكن تقتصر على قص الشعر فقط، ولكن كان الحلاق يعمل كحكيم ينظف ويخلع الأسنان إلى جانب أنه كان يطهر المواليد.
ويستذكر أبو سليمان الذي حاولنا أن نسترجع بذاكرته قليلًا للماضي، أجمل الأيام التي قضاها في مهنته قائلًا وعيناه تنظر للأعلى بحسرة " مهنة الحلاقة كانت بسيطة جدًا وصاحبها كان له قدر كبير في المجتمع رغم أن صالونه كان عبارة عن كرسي خشبي وأمامه طاولة فقط لوضع بعض الأدوات البسيطة، بالإضافة إلى مرآة صغيرة".
ولم يقتصر زبائن الرجل الذي يُعيل عشرين نفرًا من أسرته على منطقته فقط، بل كان له زبائن من مناطق قطاع غزة كافة وحتى من بئر السبع، على حد وقوله.
ولا يجد أبو سليمان حرجًا في توريث مهنته لأبنائه، وأصر عليهم تعلمها ليصبح لديه ثلاثة شُبان يجيدونها باحتراف، وبات يعمل بعضهم بشكل مستقل لوحده، ورغم تقدمه في السن فإنه مصمم على البقاء في كاره الذي تعلمه منذ نعومة أظفاره، رافضًا طلب أبنائه المتكرر له بترك العمل.
ومع مرور السنوات يتمسك السوسي في بعض أدواته القديمة كماكنة الحلاقة اليدوية والموس الذي يحمى على القشاط وبعض الأدوات التي كانت تستخدم قديمًا في الحلاقة.
السشوار وتطويل الشعر والنيقرو والشلستون والشاليش والسوالف الطويلة تلك هي أنواع قصات الشعر التي كان يرغبها الزبائن بخلاف القصات في الأيام الأخيرة والتي لا معنى لها، وفق السوسي.
"الإكرامية" هي الأجرة التي كان يتلقاها أبو سليمان من زبائنه قديمًا، "لم يكن هناك أجرة محددة فالزبائن كانوا يكرمون الحلاق كل حسب كرمه".
ولا يقتصر عمله على الحلاقة فقط، فبات يُجيد صناعة الكريمات والمواد الخاصة بفرد الشعر والكالونيا، ورغم قلة زبائنه واقتصارهم على كبار السن فإن السوسي، لا يرغب في ترك الصالون ويحبّذ البقاء في مهنته.