بنصف جسد طار إبراهيم إلى السماء؛ بعمر لم يتجاوز غرفتين من الأسبست لم تفلح شواكله القليلة التي يجنيها من عمله الشاق كل يوم في إصلاح شقوقها.
إبراهيم أبو ثريا قصتان، الأولى تختصرها ولادته في أحد أزقة مخيم الشاطئ، شابا في مقتبل العمر والهمة، همة لا تفتر، يعيل أسرته وشقيقا أكبر لأربع أخوات وأخ صغير، حيث كان بمقدوره العمل في عدد من المجالات حتى أتى ذلك اليوم الذي اعتقد البعض أنه نهاية لا محالة.
فقد إبراهيم قدميه بقذيفة سقطت فوقه في أحداث ومواجهات على المناطق الحدودية بالقرب من البريج، وهو برفقة أصدقائه عام 2008، حيث أعلنت (إسرائيل) وحشيتها كالمعتاد في مواجهة الشباب الغاضبين على الحدود، فأرسلت طائراتها المجنونة لتحصد الأرواح كالمنجل، فقطعت نصف سنبلة اسمها إبراهيم وبقي نصفها الآخر، حيث استشهد جميع من كان معه، وبقي هو، بنصف جسد.
ولأن البقاء غصة في القلب، يتحول القهر والفقد فيه إلى غضب يكلله جسارة وتحد للخوف، وهمة لا تهزم ولا تكل أبدا، وكأنه يعلن للعالم أن الطريق إلى الأقصى لا محالة سيمر عبر أجسادنا.
ذلك الجسد المثابر المعروف لدى أهالي القطاع، لم تمنعه إصابته من مواصلة الطريق، كيف لا؟!! ولا قائد ولا معيل غيره.
يحمل دلوا بلاستيكيا يجره كما يجر جسده فوق كرسيه المتحرك، ويتنقل هنا وهناك ليعمل في غسيل السيارات، وربما أتته مهمة عاجلة مقابل بعض من الشواكل، فلا يتردد، في بلاد لا يعلم قادتها كيف كان إبراهيم يسير أمور حياته ببساطة وخفة، وبكثير من الغصة.
أجل فكيف يقوى ذلك الجسد المقطع من المنتصف على إطعام هذه الأفواه المنتظرة، والتكفل بتعليم شقيقته في الجامعة؟!
كيف استطاعت رقبته أن تحمل ثقلا أكبر من الجسد دون أن تستسلم يوما إلى وجع الحياة همومها ؟!
ولعل الناظر إلى إبراهيم لا يعتقد أن فقرا كهذا يمكن أن يكون للقدس فيه حسابات، أو لا يعتقد أن عوزا كالذي يخيم على بيت إبراهيم يمكنه أن يتابع أحداث بيع الوطن كما يتابع عدد اللقم التي تدخل إلى جوفه إذا سمحت له الظروف بتوفيرها، لكنه لا يتبع نظرية الوقوف مع الفائز، بل هو صاحب المبدأ الذي لا ينحرف، ولا يبيع ولا يتغير، وربما من هنا كان إصراره على الموقف مهما كان الثمن، ومهما كان وضعه، حتى لو كان بنصف جسد !
ولأن إبراهيم كان وطنيا بامتياز، أعلن للعالم أنه لا حدود سوى حدودنا نحن، فحضّر أعلامه الفلسطينية، ورفع رأسه عاليًا، وربما عبأ رئتيه بهواء غزة الذي لم يعد لنقاوته مثيل على أي أرض عربية، ثم انطلق.
وتسمرنا جميعا أمام شاشاتنا وأجهزتنا الخليوية، متسائلين باستغراب، ما الذي يجعل رجلًا بنصف جسد يحبو حتى يصل إلى النقطة الفاصلة بين الموت والموت ليرفع علم فلسطين عاليًا، أم أنه كان أعلم منا جميعا بأن طريق القدس هنا، وهنا فقط، عبر أجسادنا وإن ضعفت، وإن جاعت، فقط عبرها يمكن الوصول!
وها هو جسد إبراهيم مسجى، فوق أكوام من التراب، بدون قدمين، وبرقعة بالية من بنطال مقصوص ليتناسب مع طول ما تبقى، رافعا يديه، يحمل علم فلسطين يخاله الناظر جالسا وهو وحده من يقف بينما نحن جالسون.
لم تكن له قدمان صناعيتان وربما لم يمتلك من هو في مكانه ترف تركيب قدمين، وربما آثر إكمال القصة حتى النهاية على كرسي متحرك مهترئ.
هل مر أحدهم ذلك المساء ليقنعه بالذهاب الى الحدود؟!
هل أخبركم إبراهيم عن قهر المحتل من رؤية علم فلسطين وهو يرفرف في يده، هل كان يعلم أن تلك الصورة ستكون الأخيرة مثلما كانت الأولى؛ هل له أن يعرف الآن بأنه صفعنا جميعا صفعة أوقعتنا أرضا لنكمل غيبوبتنا بينما يكمل هو تحليقه نحو السماء، أجل،
اركض يا إبراهيم أبو ثريا، فربما كان الوصول أسرع كثيرا بدون قدمين !!