الأسيرات ينسجن ذكرياتهن على ثوب "حَسّونة السجن"

غزة -ياسمين عنبر
غزة -ياسمين عنبر

غزة -ياسمين عنبر

"أوتوغراف الرسائل" واحد من أجمل الذكريات التي نضحك كثيرًا ونسعد حين يمر على ذاكرتنا، ذاك الدفتر الذي يضم بين دفتيه ضحكات وأشواق وبراءة الطفولة التي نفتقدها الآن في زمن الرسائل الإلكترونية الباردة التي لا تكون صادقة دائمًا كما رسائل الورق التي كنا ننحتها على صفحات أيامنا.

"أكتب لك للذكرى لأن الذكرى ناقوس يدق في عالم النسيان"، هذه العبارة التي اعتدنا أن تتصدر رسائل الأصدقاء في صغرنا، اليوم تستبدل في أوتوغراف الأسيرة المحررة الطفلة "أمل قبها"، بعبارة "نكتب لك إلى حين اللقاء في عالم الحرية" والذي كان ثوبها بدلًا من الأوراق.

أمل قبها ذات السبعة عشر ربيعًا هي ابنة مدينة جنين من قرية "طورة" التي نشأت وترعرعت فيها، ولكن سرعان ما انتقلت برفقة عائلتها لتستقر في قرية "أم الريحان" المحاصرة المعزولة داخل جدار الفصل العنصري وبوابات الاحتلال.

على أحد الحواجز أثناء عودة "أمل" مع عائلتها من قرية يعبد إلى قريتهم، استفزتها مجندة إسرائيلية ووجهت لها ألفاظًا وكلمات بذيئة لم تحتملها "أمل"، والتي فهمتها من خلال الكلمات القليلة التي تعرفها بالعبرية، فردت عليها ما أدى إلى اعتقالها.

زجت الطفلة "قبها" في زنازين سجن الهشارون، لكن المجندة ابتدعت تهمًا لها وهي حيازتها سكينًا ونية تنفيذ عملية طعن، ما أدى إلى الحكم عليها عامًا ونصف.

"حسونة السجن" كان لقب "قبها" داخل سجن الهشارون، أما "الفرح" فهو الاسم الذي تناديه أمها به لشدة التفاؤل والفرح الذي تنثره أينما تواجدت ما يؤكد مقولة "لكل شخص من اسمه نصيب"، تحكي "أمل": "لم أسمح لشيء في السجن أن يزرع القهر في قلبي فقد كنت أنشد للأسيرات وأصنع جو مرح طوال اليوم لذلك كانوا يلقبونني بحسونة السجن".

"راح نشتاق لك كتير، أمل حسونة السجن، سنفتقدك يا فراشة سجن الهشارون، عيناك الخضراوان جميلة كالقدس الكل يريد احتلالها، ابتسمي كي تخجل الحرب من جمال ابتسامتك، سيكون لقاؤنا في سماء الحرية بإذن الله"، هذه الكلمات وغيرها نسجتها الأسيرات على قميص "أمل" قبل تحريرها، ليكون هذا بمثابة الثوب الذي يضم بالحروف التي خطت عليه أجمل شيء تخرجه "قبها" معها إلى خارج السجن.

هذا القميص الذي لم يعد مجرد قميص لديها كما أخبرت "الرسالة" فعليه بصمات نسجتها أيدي بحروف من صميم قلوبهن، فواحدة منهن تحدت إصابتها بيديها وكتبت لها، وأخرى لم تستطع فراق أمل فباحت بمدى اشتياقها لها بحروف من قهر، تقول: "كل ما أشتاق لهم بقرأ الرسائل اللي عالقميص بيرجعني لأيامهم وجمال صحبتهم ومحبتهم".

ظروف السجن القاسية لم تستطع تكبيل ريشة "قبها" التي لطالما أطلق عليها في مدرستها "الفنانة الموهوبة"، لامتلاكها لموهبة الرسم التي تتميز بها، فهي كما تخبر "الرسالة" كانت تقضي معظم أوقاتها في الزنزانة.

"كنت أرسم بريشتي معاناة الأسيرات وأحلام طفولتي التي أجهضها الاحتلال وصور الحواجز التي تعد معاناة الفلسطينيين في الضفة الغربية، كما كنت أرسم أمنيات الأسيرات ولقائهن بذويهن"، تحكي.

كان الحديث مع "أمل" صادمًا، فلم تكن تتوقع "مراسلة الرسالة" أن السجن بعذاباته قد روضها لتتجاوز مرحلة الطفولة وتصبح بعقل الكبار، ولكنها بقيت محافظة على براءتها التي اغتيلت داخل الزنازين والبوسطة، حين تحكي أن أجمل موقف مر عليها في السجن هو تمثيلها والأسيرات العرس الفلسطيني التراثي وتضحك: "كنت أنا العروسة".

على حاجز جبارة جنوب مدينة طولكرم وبمجرد فحص هويتها على باب البوسطة التي نقلت فيها من السجن إلى الحاجز الذي يتواجد أهلها عنده، خلال ثوانٍ صعدت "قبها" إلى حافلة البوسطة لتأخذ الأكياس التي تمتلئ بذكريات السجن، وركضت نحو أهلها.

تحكي:" أتفاجأ كثيرًا حين أرى الفيديو الذي وثق لحظة احتضاني لأهلي وقت تحريري فلم أكن بوعيي من كمية الفرح التي تملأ قلبي"، وأخذت تحكي عن الحزن الذي امتزج بفرحها بالتحرير لبعدها عن الأسيرات اللاتي أصبحن جزءًا من حياتها.

"فرحتي كتير ناقصة" تقول "قبها" والحزن بادٍ على صوتها، حيث اعتبرت تحريرها من الزنازين فرحة لكنها ناقصة وهي تترك خلفها أسيرات يتجرعن من كأس البعد عن ذويهم، "لا سيما المصابات كإسراء الجعابيص ومرح باكير ونورهان عواد وغيرهن".

رغم أجندة الأمنيات التي سطرتها "أمل" منذ خروجها من السجن، إلا أن أمنية تحرير الأسيرات ولقاءها بهن في سماء الحرية، تتصدر هذه القائمة وتختم: "يا باب السجن ريتك خرابة".

البث المباشر