"أرض مكدّسة بأكوام من النفايات"، و"روائح كريهة"، و"حشرات وقوارض"، هكذا يصف الحاج أبو خليل الذي يقطن شرق مخيم جباليا، منذ أكثر من 10 أعوام، المشهد أمام منزله، قائلاً: "نعيش في أجواء سامة قاتلة".
وقال الحاج أبو خليل الذي يبلغ من العمر (65 عامًا):" "الروائح الكريهة تنبعث في أرجاء المكان، ناهيك عن الحشرات التي تنتشر بسبب التلوث"، مشيراً إلى أن فصل الصيف يضاعف المعاناة، نظراً لتخمّر النفايات بشكل أسرع، وتسلل رائحتها نحو المنزل.
ويُعتبر مكبّ النفايات الواقع في شرق مخيم جباليا شمال القطاع، من أكبر المكبّات "العشوائية"، التي انتشرت في مختلف أنحاء القطاع منذ عام 2007، بحسب سلطة جودة البيئة.
وتعد المكبات العشوائية في غزة أماكن تلقى بها النفايات الصلبة والتخلص منها دون مراعاة للشروط الصحية والبيئية؛ وبشكل عشوائي ومخالف للقانون، في ظل عدم وجود الخطط الإستراتيجية الواضحة، وعدم وجود مخططات هيكلية للمدن والمحافظات، والزيادة المطردة في كمية النفايات بأنواعها المختلفة.
وأدى ذلك إلى تعقيد مشكلة النفايات الصلبة، الأمر الذي رافقه زيادة كبيرة وانتشار ملحوظ لمكبات النفايات العشوائية في قطاع غزة؛ فلا تكاد تخلو مساحة زراعية على الحدود الشرقية والجنوبية لقطاع غزة من وجود مكب نفايات أو أكثر، يشكل لها مكرهة صحية وملاذًا للحشرات والقوارض والحيوانات المختلفة.
تكدس النفايات الصلبة على الحدود الشرقية لقطاع غزة، وقربها من الآبار الزراعية ومنازل المواطنين دفع "الرسالة" إلى البحث والتقصي عن الأضرار المترتبة على ذلك، خاصة أنها أنشئت بعيدًا عن المواصفات الصحية والدولية، ومدى إمكانية تدارك الأمر وعلاجه بما يحفظ سلامة البيئة وصحة المواطنين.
ونصت المادة (40) من قانون الصحة العام رقم (20) لسنة 2004م أنه يجب على كل شخص المحافظة على البيئة بعناصرها المختلفة، وذلك بعدم التسبب بمكاره صحية، وأنه يجب إزالة المكرهة الصحية التي تسبب بها، أو كان مسؤولاً عنها.
ورصد تقرير بيئي سابق صدر عن مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان الانتهاكات بحق البيئة الفلسطينية، متطرقاً لوجود مكب النفايات بالقرب من آبار المياه، وكذلك حرق النفايات الصلبة، في ظاهرة أطلقت عليها "الموت البطيء".
يشترط القانون أن يكون موقع المكب بعيدًا عن التجمعات السكنية والتجارية ووفق ما تحدده السلطة، وأن يكون الموقع محاطاً بسياج، ويكون مبطناً بمادة عازلة لحماية المياه الجوفية، ويوجد فيه نظام لجمع ومعالجة العصارة الناشئة من المكب، ويقام عكس اتجاه الريح السائدة في المنطقة، إلا أن هذه الشروط غير متوافرة في مكب شمال قطاع غزة.
مختص في "البيئة": تسرب "عصارة" النفايات للخزان الجوفي له مخاطر عالية
ويبلغ إجمالي إنتاج قطاع غزة 1900 طن من النفايات في اليوم الواحد، وهي نسبة "خطيرة" لو قورنت بحجم ومساحة القطاع، حيث يجري نقلها إلى مكبات خاصة بالبلديات، منها المهيأ "وفق الأصول"، ومنها ما هو "عشوائي"، وترحل بلديات شمال القطاع نفاياتها إلى مكب النفايات شرق مخيم جباليا ويتم ردمها بطرق بدائية.
وخلال عدة جولات ميدانية أجراها معد التحقيق، على مكب النفايات شرق غزة، وبيت لاهيا، وبيت حانون، لاحظ قدوم شاحنات تابعة للبلديات تكب النفايات بطريقة عشوائية، دون وجود مواصفات صحية تحمي التربة والخزان الجوفي من عصارة النفايات.
ويشكو المواطن خالد حميد (35 عامًا)، الذي يقطن في بيت لاهيا شمال القطاع، من مكب النفايات العشوائي الواقع قرب منزله، ويقول لـ"الرسالة": "إن المكب يؤثر بشكل سلبي على الحياة في هذه المنطقة، خاصة في ظل انبعاث الروائح الكريهة التي تتسبب بأمراض صدرية، وانتشار الحشرات والقوارض".
وأضاف:" في كثير من الأوقات تصل المياه التي تضخ من البئر الجوفي القريب من مكب النفايات ملوثة"، وتابع: "خلال السنوات الأخيرة أصبحنا لا نستخدم المياه التي تصلنا من البلدية، ونعتمد على المياه المحلاة".
مواد سامة
حمل معد التحقيق هذا الملف الخطير إلى رئيس قسم البيئة وعلوم الأرض في الجامعة الإسلامية د.سمير حرارة، الذي نوه إلى أن مكب النفايات العشوائية التي أنشأتها بعض البلديات في غزة، تدمر الخزان الجوفي وتضر البيئة بشكل عام، ما ينتج عنها انتشار للقوارض والحشرات في المكان الذي بدروها تنقل الأمراض للمواطنين سكان هذه المناطق.
وقال حرارة: "إن تخمر المواد العضوية وتحللها ينتج عنه عصارة ذات تركيز عالي السمية، ويتسرب للخزان الجوفي ما يسبب تلوث المياه التي تصل للمواطنين، وكذلك الآبار الزراعية القريبة من مكب النفايات العشوائية".
وأوضح أن العصارة التي تتسرب للآبار الجوفية ينتج عنها مواد سامة مثل "النترات" و"الرصاص" و"الزرنيخ"، ما جعل هذه الآبار غير قابلة للاستخدام.
وحذر رئيس قسم البيئة وعلوم الأرض في الجامعة الإسلامية، من أن مكب النفايات العشوائية ينتج عنها مادة العصارة السامة التي تسبب أمراضًا خطيرة مثل مرض "رقاق الأطفال Blue baby"، وهو مرض اختناق الطفل أثناء البكاء نتيجة نقص الأكسجين في الدم ما يتسبب في وفاته، وكذلك أمراض أخرى مثل السرطان.
البلديات تتحمل المسؤولية
"الرسالة" فتحت هذا الملف مع سلطة جودة البيئة كونها الجهة الرقابية على البلديات، حيث قابلت المهندس محمد مصلح مدير دائرة النفايات الصلبة والخطرة، الذي أقر بخطورة وجود مكب النفايات العشوائية.
وحمل مصلح، رؤساء بلديات جباليا النزلة، وبيت حانون، وبيت لاهيا، إهمال مناشدات سلطة جودة البيئة بإغلاق المكبات العشوائية، لما لها من مخاطر على التربة والخزان الجوفي للمياه.
وأكد مصلح في حديثه لـ"الرسالة"، على أن سلطة جودة البيئة أخطرت بلدية بيت حانون، وجباليا، وبيت لاهيا، بإغلاق هذه المكبات، موضحاً أن البلديات تتحجج بإنشاء المكبات العشوائية بقلة الإمكانيات المتاحة لها، متجاهلة المخاطر الصحية والبيئة التي تسببه هذه المكبات.
وبين أن مكبات النفايات لها مخاطر صحية كبيرة على الإنسان والبيئة كون النفايات تحتوي على العشرات من العناصر والمركبات الكيميائية الناجمة عن المعادن الثقيلة، وأن تحللها أو اشتعالها يؤدي إلى انبعاث الغازات السامة والخطيرة على المواطن.
ونوه مصلح إلى أنهم في سلطة جودة البيئة يعتبرون جهة رقابية فقط، مؤكدًا في الوقت ذاته أن متابعتهم لهذه القضية بشكل كبير وإجراءهم لعمليات مسح ميداني مستمرة للمكبات ونقاط التجميع العشوائية، مضيفاً أن "المكبات غير مجهّزة هندسياً أو بيئياً أو صحياً لاستقبال كميات النفايات الكبيرة".
"جودة البيئة": البلديات تهمل مناشداتنا بإغلاق مكبات النفايات العشوائي
وتعد مشكلة المكبات العشوائية للنفايات الصلبة من المشاكل البيئية الأساسية في القطاع، وفق مدير دائرة النفايات الصلبة والخطرة بسلطة جودة البيئة الذي واصل حديثه قائلاً: "القطاع يشهد زيادة في كمية النفايات الصلبة بسبب تغير العادات الغذائية للمواطنين، وزيادة الكثافة السكانية، دون أن يقابلها تحسين للإجراءات، إضافة إلى قلة الوعي البيئي لدى السكان".
وتعتبر عصارة النفايات مصدرًا لتلوث المياه السطحية والجوفية في مكب النفايات شرق مخيم جباليا، وبيت لاهيا، وبيت حانون، حيث تقدر بحوالي6،800 متر مكعب سنوي، وهذه الكمية الكبيرة من العصارة تسبب تلوثًا خطيرًا في المياه الجوفية التي تمد سكان شمال قطاع غزة.
ليس وفق المواصفات الصحية
عاطف السلطان رئيس قسم الصحة في بلدية بيت لاهيا، أقر أن المكب العشوائي الذي أنشأته بلدية بيت لاهيا موجود منذ سنوات عدة شمال القطاع، ويعتبر المكب الرئيس لها.
وبعد عرض معد التحقيق دلائل توضح بأن هذا المكب غير صحي، قال السلطان:" مكب النفايات التابع لبلدية بيت لاهيا لم يتم إنشاؤه وفق المواصفات الصحية والدولية التي تحفظ التربة والخزان الجوفي للمياه".
وتذرع أن إنشاء هذا المكب جاء تحت سياسة الأمر الواقع بسبب الضائقة المالية التي تمر بها البلدية، وقلة الجباية التي تحصلها من المواطنين، وأوضح أن طن النفايات الواحد يكلف البلدية ما يقارب 120 شيكلًا ما بين جمعه وترحيله إلى جحر الديك، في الوقت الذي تجمع البلدية يوميًا ما يقارب الـ110طنًا من النفايات.
بلدية جباليا النزلة: قلة الإمكانيات أحد أسباب إنشاء مكب نفايات عشوائي شرق غز
وأشار السلطان إلى أن مكب النفايات العشوائي في مدينة بيت لاهيا يحتوي على أكثر من 50 ألف طن من النفايات، لافتًا إلى أن نقلها إلى مكب جحر الديك يحتاج إلى مبلغ مالي كبير.
وعزا سبب إنشاء هذا المكب إلى قلة الإمكانيات التي تمتلكها البلدية بسبب اهتراء سيارات النقل، وكذلك انخفاض كبير في المنح التي تقدمها الدول المانحة للبلديات، مشيرًا إلى أنهم ناشدوا الحكومة والدول المانحة لتقديم دعم سريع لإنهاء هذه الكارثة والتي تسبب ضررًا كبيرًا على صحة الإنسان والخزان الجوفي.
رفع شكاوى للنيابة
وخلال بحث معد التحقيق مع الجهات المسؤولة عن حلول لإنهاء هذه الكارثة الصحية، التقى بمصدر مسؤول فضل عدم الكشف عن اسمه، حيث قال :" جرى تقديم إخطارات لبلدية جباليا، وبيت لاهيا، وبيت حانون، بإغلاق مكب النفايات العشوائية، إلا أنها واصلت الإهمال في هذا الملف، وذلك لتوفير الأموال التي تترتب على نقلها إلى مكب جحر الديك"، وفق قوله.
بلدية بيت حانون: مكب النفايات عشوائي وليس وفق المواصفات الصحية والدول
وأوضح في حديث لمعد التحقيق، أن سلطة جودة البيئة قدمت شكوى رسمية للنيابة العامة للضغط على البلديات لإغلاق مكب النفايات العشوائية، لكنها نقلت هذا الملف الخطير إلى وزارة الحكم المحلي.
وبين أن بلدية بيت لاهيا أنشأت مكب نفايات على مساحة أكثر من 20 دونمًا من الأراضي شمال القطاع، لجعله مكب نفايات يستوعب أكثر من 40 ألف طن من النفايات، مشيرا إلى أن جهات مانحة قدمت للبلدية موازنة لإغلاق هذا الملف، وجرى ترحيل النفايات إلى جحر الديك، لكن البلدية عاودت من جديد لكب النفايات فيه.
أما عن بلدية جباليا، فيقول المصدر المسؤول إن البلدية تتذرع بأنها لا تملك الإمكانيات المتاحة لنقل النفايات إلى مكب جحر الديك الرسمي. وأشار إلى أنها تقول للجهات المسؤولة إنها ستنقل هذه النفايات في أقرب فرصة إلى أن وصلت كمية النفايات فيه إلى أكثر من 55 ألف طن من النفايات ما يترتب على عملية نقله مبالغ مالية طائلة.
ارتفاع معدل ثلوث المياه
ويرتفع معدل التلوث البكتيري والكيميائي في مياه القطاع نتيجة لتسرب مياه الصرف الصحي إلى الخزان الجوفي والشبكات، فسكان غزة -المقدر عددهم بمليوني نسمة يسكنون فوق 365 كم مربع، وهي البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم- يعانون مشكلة تسرب مياه الصرف الصحي للخزان الجوفي، حيث إن أقل من 80% من السكان متصلون بشبكات الصرف الصحي، والباقون يضطرون لتصريف مياه الصرف الصحي عبر القنوات المفتوحة وإلى باطن الأرض من خلال الحفر الامتصاصية، مما يتيح المجال لتسربها للخزان الجوفي وبالتالي تسهم في مزيد من التلوث.
مصدر مسؤول: تم رفع شكاوى ضد البلديات المخالفة للنيابة العام
ووفق دراسة حول "النفايات الصلبة ومخاطرها على البيئة" للباحث رامي أبو العجين، فإن مكبات النفايات الصلبة التي تنتشر في قطاع غزة تترك بشكل كبير وخطير مخاطر جمة على المياه الجوفية، التي يعتمد عليها الأهالي في شربهم وطعامهم اليومي، وتؤدي إلى تلوث الهواء والتربة، خاصة الزراعية.
ودعا الباحث إلى ضرورة الاهتمام بفرز النفايات الصلبة المنزلية، وتشجيع السكان على تقليل كمية النفايات، التي يتم ترحيلها إلى المكبات، وذلك باستخدام عديد من الوسائل المادية والمعنوية.
قلة الإمكانيات
معد التحقيق طرق باب مدير دائرة الصحة والبيئة في بلدية جباليا النزلة المهندس نزار زقوت، مستفسراً عن سبب وجود مكب النفايات العشوائي شرق جباليا، فبرر ذلك بعدم وجود إمكانيات لدى بلديته لنقل النفايات الصلبة إلى منطقة جحر الديك شرق قطاع غزة.
وقال زقوت: "اضطررنا إلى إنشاء هذا المكب، وإلقاء النفايات الصلبة فيه بشكل مؤقت إلى حين توفر الإمكانيات لنقلها إلى شرق القطاع". ويعزو تراكم النفايات وعدم ترحيلها لمكب جحر الديك إلى الأعطال التي أصابت آلات الرفع والنقل الخاصة بالبلدية.
وأضاف: "قدمنا رسالةً إلى مؤسسات دولية ومحلية وكذلك الحكومة، لإنهاء هذه الكارثة، من خلال إنشاء مكب ذات مواصفات صحية في منطقة شمال القطاع.
حلول لقضية المكبات العشوائية
واستنتاجًا مما سبق فان حجم الضرر الذي يهدد حياة المواطن في غزة وسلامته جراء عدم إلزام الجهات المسؤولة في وزارة الحكم المحلي، بلديات جباليا، وبيت لاهيا، وبيت حانون، بترحيل النفايات الموجودة في المكب بشكل يومي وعدم بقائها فيه لأيام.
ويجب على الجهات المعنية، بإغلاق مكبات النفايات العشوائية، كون الخطر الحقيقي الذي يواجه المنطقة الشمالية التي يقع فيها المكبات، هي العصارة الناتجة عن تحلل النفايات ووصولها إلى الخزان الجوفي الذي يعتبر من أفضل الخزانات الموجودة في قطاع غزة.
وأخيراً تفعيل الضغط على الحكومة وسلطة الأراضي من أجل توفير قطعة أرض شرق قطاع غزة، لإنشاء مكب نفايات بمواصفات صحية وعالمية لنقل المكبات العشوائية إلى هناك وإبعاده عن الخزان الجوفي والسكان.
وبهذا تقرع صحيفة الرسالة ناقوس الخطر من خلال طرح قضية المكبات العشوائية للنفايات، متطلعة لقيام الجهات المعنية بمعالجة الأمر للحفاظ على سلامة البيئة وصحة المواطن الذي بات يعاني في مختلف جوانب حياته، فهل تجد آذانًا صاغية؟!