قائد الطوفان قائد الطوفان

عباس.. استراتيجية المراوحة في المكان لفظت أنفاسها

محمود عباس
محمود عباس

د.صالح النعامي

على الرغم من أن كل الشواهد تدلل على أن رئيس السلطة محمود عباس غير معني بإحداث أي تحول على وظيفة سلطته تجسيدا لمقررات المجلس المركزي الفلسطيني، التي جاءت ردا على قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لـ(إسرائيل) ونقل السفارة إليها، فان قرار ترامب الأخير تحديد الرابع عشر من مايو القادم كموعد لنقل مقر السفارة سيمس بشكل كبير بهامش المناورة الضيق أمام قيادة السلطة الفلسطينية.

ومما يحرج عباس أكثر أن قدرته على المناورة السياسية باتت مستحيلة. فنظرا لعجز الأطراف الدولية عن لعب أي دور في جهود الوساطة بسبب رفض كل من واشنطن و(تل أبيب)، فإن رئيس السلطة يعي أن الموافقة على استئناف المفاوضات بعد تطبيق قرار نقل السفارة يعني تسليما فلسطينيا بإخراج القدس من دائرة المفاوضات، كما أوضح ترامب بشكل صريح خلال مشاركته في مؤتمر "دافوس" الاقتصادي مؤخرا.

وعلى الرغم من أنه يمكن الافتراض أن عباس سيحاول المناورة من جديد، إلا أنه سرعان ما سيكتشف أن البساط قد سحب من تحت قدميه بأسرع مما يتوقع. فهو سيحاول من ناحية اقناع الجمهور الفلسطيني بأنه تشبث بالموقف الرافض لعودة الولايات المتحدة لاحتكار جهود الوساطة الهادفة لحل الصراع. لكن الجمهور الفلسطيني معني بشكل خاص بإعادة صياغة العلاقة مع الكيان الصهيوني بشكل كامل وإعادة تدوير وظيفة السلطة وتحويلها إلى أداة مقاومة لا أداة لتمكين الصهاينة من تحقيق مآربهم.

فمنذ انتهاء جلسات المجلس المركزي، دلل عباس مجددا على أن التعاون الأمني مع الاحتلال ليس فقط مقدسا، بل إنه حرص على تحدي مشاعر شعبه من خلال توسيع التعاون الاقتصادي مع الصهاينة أيضا. فقد التقت وزيرة الاقتصاد في حكومة رام الله بوزير الاقتصاد الصهيوني في باريس، في حين يحل منسق أنشطة الحكومة الصهيونية في الأراضي المحتلة الجنرال بولي مردخاي ضيفا دائما في ديوان رئيس حكومة السلطة رامي الحمد الله.

ومما يزيد الأمور تعقيدا أن الإسراع في تطبيق قرار نقل السفارة على وجه الخصوص سيحرج عباس أكثر، حيث تعاظمت الدعوات من القيادات السياسية والنخب الفلسطينية لاتخاذ قرارات عملية، بحيث لم يعد هناك مجال للتسويف، سيما في كل ما يتعلق بوقف التعاون الأمني مع سلطات الاحتلال.

في الوقت ذاته، يعي عباس أن الإدارة الأمريكية، بالتعاون مع حكومة اليمين المتطرف في (تل أبيب) معنية بتطبيق ما جاء في "صفقة القرن"، كما كشفتها وثيقة عريقات من جانب واحد، دون الحاجة إلى المفاوضات. فهناك ما يدلل على أن ترامب يخطط لإصدار تصريح آخر يدعم فيه موقف (إسرائيل) الرافض لعودة اللاجئين الفلسطينيين، وتطبيق هذا الحق خارج الأراضي "الإسرائيلية".

في الوقت ذاته هناك ما يدلل على أن حكومة بنيامين نتنياهو شرعت فعلا بشكل صامت في تطبيق هذا البند تحديدا، حيث أصدرت هذه الحكومة عدة قرارات بتبييض عدد من النقاط الاستيطانية التي بناها المستوطنون في أرجاء الضفة بدون الحصول على ترخيص من السلطات الإسرائيلية. وحسب ما كشفته قناة التلفزة الإسرائيلية الثانية ستتخذ (إسرائيل) خلال العام 2018 قرارا بضم منطقة "ج"، التي تشكل 60% من الضفة الغربية.

ومن نافلة القول إن مواقف القوى الإقليمية العربية ستزيد الأمور تعقيدا أمام قيادة السلطة. فرغم إعلان هذه القوى رفض القرارات الأمريكية بشأن القدس، إلا أنها في المقابل تصر على أنه لا بديل عن الوساطة الأمريكية.

ما بات مؤكدا أن إصرار عباس على مواصلة التشبث بالتعاون الأمني سيزيد من إصرار الفلسطينيين على تحدي سلطته وتوجهاتها، حيث أن حجم الهوة يتسع باطراد بين الجماهير الفلسطينية وقيادة السلطة التي قد تخاطر بصدام مع هذه الجماهير. فحتى المنتمين لحركة فتح لم يعودوا قادرين على التعايش مع هذه المواقف. فبعد إقدام قيادات ميدانية من حركة "فتح" قبل شهر على طرد وفد أمريكي من بيت لحم وقيام نشطاء فلسطينيين قبل عدة أيام بإحباط مشاركة وفد آخر في مؤتمر بحثي نظم في رام الله، فإن كل الدلائل تشير إلى أن استراتيجية السلطة القائمة على المراوحة في المكان لفظت أنفاسها.

البث المباشر