من الواضح أن نمط العلاقة السائد حاليا بين السلطة و(إسرائيل) يمثل مقدمة لتجسيد لفكرة السلام الاقتصادي، التي يدعو إليها اليمين الإسرائيلي، والتي تنطلق من افتراض مفاده بأن تحسين الأوضاع الاقتصادية للفلسطينيين يمكن أن يكون بديلا عن تحقيق تسوية سياسية للصراع تضطر (إسرائيل) بموجبها للانسحاب من الأراضي الفلسطينية التي احتلتها في حرب 67 أو جزء منها.
فعندما تتعاون حكومة رام الله مع (إسرائيل) والولايات المتحدة في تدشين المشاريع الاقتصادية على الرغم من انسداد الأفق السياسي، وفي ظل تعاون كل من إدارة ترامب وحكومة بنيامين نتنياهو وبعض القوى الإقليمية في محاولة لتمرير صفقة القرن"، فإن هذا الواقع يعد ترجمة لفكرة "السلام الاقتصادي"، كما نظر لها نتنياهو مرات عدة.
ومما يعزز من مركبات بيئة السلام الاقتصادي حقيقة أن السلطة تتجنب اتخاذ خطوات عملية لتحدي التحركات الإسرائيلية والأمريكية، حيث تواصل التعاون مع الجيش والمخابرات الإسرائيلية بشكل يضمن تحسين الظروف الأمنية للمشروع الاستيطاني اليهودي في الضفة، إلى جانب عدم إقدامها على خطوات عملية لإيذاء (إسرائيل) بشكل جدي في المحافل الدولية، سيما تجنب رفع دعاوى ضد (تل أبيب) أمام محكمة الجنايات الدولية، سيما بعد اتهامها بارتكاب جرائم حرب من قبل منظمات حقوقية دولية.
وفي المقابل يلاحظ تعاظم مظاهر التعاون الاقتصادي بين (إسرائيل) والسلطة تحديدا في أعقاب جلسة المجلس المركزي الذي عقد في أعقاب قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وهو الاجتماع الذي أوصى قيادة السلطة بإعادة النظر في اعتراف منظمة التحرير، إلى جانب وقف التعاون الأمني.
فعلى الرغم من تصعيد قيادة السلطة اللهجة ضد كل من الولايات المتحدة و(إسرائيل) في أعقاب قرار الرئيس دونالد ترامب نقل السفارة، إلا أن كل الشواهد تدلل على أن هذه الأطراف الثلاثة تكثف في الآونة الأخيرة بشكل ملحوظ من مظاهر التعاون الاقتصادي.
فمنذ انعقاد المركزي، طرأت زيادة واضحة على عدد اللقاءات التي تجمع كبار مسؤولي السلطة والمسؤولين الإسرائيليين بهدف بحث التعاون في مجال تدشين المشاريع الهادفة إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية في مناطق السلطة. فقد عقد رئيس حكومة السلطة رامي الحمد الله ووزيرة الاقتصاد في حكومته عبير عودة عدة لقاءات مع وزيري المالية والاقتصاد الإسرائيليين موشيه كحلون وإيلي كوهين لبحث فرص تدشين مشاريع اقتصادية في الضفة الغربية.
إلى جانب ذلك، فإن السلطة و(إسرائيل) تتركان لكل من حسين الشيخ وزير الشؤون المدنية في السلطة وبولي مردخاي منسق شؤون الأراضي المحتلة في وزارة الحرب الإسرائيلية المجال لبحث القضايا التفصيلية المتعلقة بالمشاريع الاقتصادية.
لكن اللقاءات بين مسؤولي السلطة والمسؤولين الإسرائيليين لا تأتي في إطار ثنائي، بل في ضمن منظومة عمل ثلاثية، تلعب إدارة ترامب الدور الرئيس فيها. فحسب ما كشفته صحيفة "غلوبس" الاقتصادية مؤخرا، فإن المشاريع الاقتصادية التي يتباحث كحلون مع ممثلي السلطة الفلسطينية بشأنها يقوم بمناقشتها أولا مع المبعوث الأمريكي للمنطقة جيسين غرينبلت، الذي أبلغ ممثلي السلطة و(إسرائيل) بأن الولايات المتحدة مستعدة لتجنيد الدعم المالي لتنفيذ هذه المشاريع.
ويلاحظ أن مشاركة (إسرائيل) في دفع المشاريع الاقتصادية في الضفة يقتصر فقط على منح الأذونات بتدشينها وتسهيل مهمة جلب المعدات اللازمة لها، ومدها بالطاقة.
وضمن المشاريع التي أسهم غرينبلت في دفعها في الضفة الغربية يتمثل في بتطوير خدمات الهاتف النقال من خلال السماح لشركات الجوال الفلسطينية الاستفادة من تقنية "G3".
ويجاهر المسؤولون الإسرائيليون بأن أحد الأهداف التي تدفع كلا من (إسرائيل) والولايات المتحدة لتشجيع تدشين المشاريع الاقتصادية في الضفة حقيقة أن مثل هذا التطور يوفر مسوغات لقيادة السلطة لعدم تحطيم القواعد العامة التي تضبط علاقتها مع (تل أبيب)، حتى في ظل القرارات الصعبة التي اتخذها ترامب بشأن القدس ونيته طرح "صفقة القرن". فقد نقلت "غلوبس" عن وزير التعاون الإقليمي الإسرائيلي تساحي هنغبي قوله إن التعاون الأمريكي الإسرائيلي مع السلطة في المجال الاقتصادي يسمح لقادة السلطة "بالنزول عن الشجرة".
لكن مما يثير الإحباط حقيقة أنه على الرغم من إثارة الضجيج حول المشاريع الاقتصادية إلا أنها لم تحل دون حدوث تدهور على الأوضاع المادية في الضفة الغربية. فحسب المعطيات التي كشف عنها البنك الدولي قبل أسبوعين، فقد توقف النمو الاقتصادي في الضفة إلى جانب ارتفاع الأسعار وزيادة مستويات البطالة.