بمجرد وصولك إلى مكان نصب الخيام على الحدود الشمالية لقطاع غزة، تظهر لك أسماء القرى الفلسطينية متتابعة وقد علقت على الخيام، وأكثر ما يلفتك فرحة الأطفال.
فأحدهم توشح بكوفية فلسطين على أكتافه، وآخر يغرس علم فلسطين أمام خيمة قريته، وبعضهم يلتقط صورة مع جدته التي ترتكز على عكاز بظهر منحنٍ مرتدية ثوبًا مزركشًا طرز عليه شجر السرو وغزال.
"طائرة ورقية"
قبالة خيمة "الجورة" طفل بسنِّ التاسعة يدعى "أحمد راضي" يطلق طائرة ورقية، وهو ينادي على جدته التي ترتكز بعكازها على باب الخيمة تراقب أحفادها بثوبها الفلاحي المزركش وشاشها الأبيض التي تغطي به نصف وجهها.
طائرة بألوان فلسطين أسعدت الحاجة "أم سعدي راضي" وكانت تردد "علِّي أكتر يا ستي عشان توصل لسما الجورة"، أما "أحمد" فقد تجمع حوله أطفال من خيم أخرى وراح ينشد: "في الراية البيضاء عزتنا ووحدتنا، في الشارة السوداء بأسنا وقوتنا، في الربا الخضراء مجدنا وأرضنا، وفي الباقة الحمراء رمزنا وفخرنا".
تشابكت الطائرة الورقية بأخرى من خيمة "المسمية" فضحكت الجدة "راضي" وأخذت تحكي: "كلنا واحد"، ثم قالت لـ"الرسالة": "حفظت عن أجدادي كل خراريف البلاد وقصص الجورة".
"خراريف الجورة"
قصص البلاد قبل الهجرة التي اعتاد الجميع أن ينصت إليها من كبار السن، كانت في خيمة "الجورة" تنساب على لسان الأطفال كأنهم عايشوها، وتلحظ أحد أحفاد الحاجة "راضي" قد حمل ورقة كتب عليها "لم ننسَ حين مات أجدادُنا".
فعبارة جولدا مائير "الكبار يموتون والصغار ينسون" تفند حين تستمع إلى "خديجة" والتي قاسمت جدتها "راضي" اسمها وملامحها أيضًا، فرغم أنها لا تتعدى سن العاشرة إلا أنها تتحدث عن قرية "الجورة" بفرح كبير.
الثوب الفلاحي هو وحده التي ترتديه "خديجة" وجدتها، تحكي وهي ترفرف بعلم فلسطين: "أنا من قرية الجورة قضاء عسقلان المحتلة، وسأرجع إليها وأعيش هنا في غزة مؤقتًا، وأحفظ كل ذكريات ستي في الجورة".
"جو الجورة معتدل لقربها من شاطئ البحر، فكان السائحون يقضون فيها أجمل الأوقات"، تقول "خديجة الحفيدة"، وتكمل: "المساحات الخضراء جميلة في الجورة، لأن أهلها كانوا يزرعون الخضراوات والفواكه، ويتصفون بالجود والكرم ومعروف عنهم أنهم يحبون السمك".
"موسم البيادر" كان من القصص التي سردتها "الحفيدة"، حيث كان أهل "الجورة" يتجمعون في أراضي القمح ويحصدونه بخطوات كثيرة وأدوات قديمة، وينشدون: " زَرِعنا واحنا صحابه.. بالمناجل ما نهابه...زَرِعنا دنا عنـوقه.. بالمناجل والله لنسوقه".
وتكمل الطفلة "خديجة": " كانوا يجلسون على البيدر ويبدؤون الحصاد ثم ينقلون الحبوب من الحقل إلى البيدر ويدرسونه بالنروج _لوح الدراس_"، ثم يصفون القمح وتنقله الأمهات إلى الخابية، وقبل أن يدخلوه إلى البيت يخرجون "العشر" منه زكاة لفقراء القرية".
حيث اعتادت الجدة "راضي" أن تستغل جمعاتها مع أحفادها دائمًا لتغرس في قلوبهم حب العودة، وتروي لهم قصص قريتها "الجورة" في الماضي، تشاركنا الحديث بقولها: "رغم تعبي أصريت أن أشارك في مسيرة العودة فتمسكت بحقي في الجورة أكثر وبات الحلم يراودني أكثر من قبل".
"حكاية شعبية"
"سما عايش" ذات السبعة أعوام والجورانية أيضًا، كانت تشاركنا هي الأخرى جلستنا في الخيمة، وبابتساماتها الطفولية تقول: "أنا ستي حفظتني حكايات شعبية وأمثال شعبية كتيرة"، وراحت تروي حكاية "المرأة الكريمة".
"ستي حكت لي أنه كان هناك امرأة كريمة وحالها ميسور ولديها مال، وكانت تعطي نساء الجيران كل ما يحتجن إليه، وتعطي للفقراء المحتاجين وبعد فترة سمعت أن الذين تساعدهم يتكلمون عليها بالسوء والنميمة ويحسدونها، وبعد أن تأكدت من صحة الخبر قالت: "والله خسارة فيهم كل المعروف..برميه في الحارة ولا بعطيه للجارة" تقول "سما".
ضحك الجميع وختمت "الجدة" حديثها أن مسيرة العودة غرست حب الوطن أكثر في قلوب الأطفال، حيث شكلت مجالًا أوسع للحديث معهم عن أيام البلاد وذكريات الأجداد فيها، وقالت: "قريبًا نلتقي في الجورة ونعيد الأيام الخوالي (..) والله اشتقت لروابيها وأراضيها وخضرتها وطيبة أهلها".