مقال: جولات في الفكر الإسلامي

أ. يوسف علي فرحات                                

إن العملية التربوية من أهم القضايا في حياتنا ، حيث على أساسها تُبنى الأممُ وتشيدُ الحضارات ، وهى مسؤولية تشترك فيها الأسرة والمدرسة والمجتمع . ولعل الأسرة تتحمل الجانب الأكبر من هذه المهمة . فالولدان إذا قصرا أو تخليا عن تربية أولادهما فإنها سيعيشان عيشة اليتامى والمشردين بل سيكونون سبباً للفساد وأداة للإجرام ولله در الشاعر أحمد شوقي حين قال :

ليس اليتيم من انتهى أبواه                  من هم الحياة وخلفاه ذليلاً

إن اليتيم هو الذى تلقى له                  أماً تخلت أو أباً مشغولاً

إنَّ الإسلام حمَّل الآباء والأمهات مسؤولية كبرى فى تربية الأبناء وإعدادهم الإعداد الكامل لحمل أعباء الحياة وتهددهم بالعذاب الاكبر إن هم فرطوا وقصروا وخانوا وقد عنيت السنة النبوية بهذه القضية عناية فائقة ، حيث جاءت عشرات الأحاديث تحث الأباء والأمهات على تربية أولادهم وأرشدتهم إلى الطرق التربوية السليمة ، ومن ذلك  ما أخرجه  البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عه وسلم قال: ( والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته والمرأة راعية فى بيت زوجها ومسؤولة  عن رعيتها ) .  وأخرج الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال ( أدبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم وحب آل بيته وتلاوة القرأن فإن حملة القرآن في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله ) . وعند  الترمذي قال صلى الله عليه وسلم فى معرض الترغيب فى تأديب الأولاد ( لأن يؤدب الرجل ولده خير له من أن يتصدق بصاع)  وأخرج أيضاً  أنه صلى الله عليه وسلم قال ( ما نحل والدٌ ولداً من نحلٍ خير من أدب حسن )

وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم الآباء والأمهات لكى يعتنوا بالبنات عناية خاصة وذلك لما وقع عليهن من جور في الجاهلية . فقد أخرج مسلم فى صحيحه عن أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عيه وسلم قال  ( من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو "وضم أصابعه ) . وأخرج أبو داوود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده عليها أدخله الله الجنة) .

كل هذه النصوص  ترسم لنا منهجية الإسلام في التربية والتي تقوم على التركيز على الجوهر و الكيف فى الوقت الذى يدعو فيه إلى التكاثر والتناسل ولكن دعوة الإسلام تلك لا تعنى أنها دعوة إلى كم مهل ولذا قال صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح ( تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة )  فلا يعقل أن النبي صلى الله عليه وسلم سيباهي بمن ترك الصلاة أو غرق بالمحرمات !! أو أنه  سيباهي بهذه الملايين التي  استمرأت  حياة الذل والخنوع  وعطلت حدود الله وذلت لأعدائها .

كما أن منهجية التربية في الإسلام تقوم على الشمول فالإسلام دعا إلى العناية بتربية الأبناء إيمانياً وخلقياً وجسمياً وعقليا ونفسياً وهكذا فلا يجوز التركيز على جانب وإهمال الجوانب الأخرى .

وإن كانت نقطة البداية فى التربية فى الاسلام لا بد أن تبدأ من الأصل الأصيل من الايمان . فقد أخرج  الحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(افتحوا على أولادكم بكلمة لا إله إلا الله ) هذه التربية الإيمانية هى التي يلحُ عليها كبار علماء التربية والأخلاق حتى من غير المسلمين منهم فهذا الفرنسي الشهير "فوليتر" يقول ساخراً من الملاحدة الماديين )  لم تشككون في الله ولولاه لخانتني زوجتي وسرقني خادمي ).

كما أن التربية الإسلامية  تقوم على التركيز على معاني الأخلاق وزرع مراقبة الله سبحانه والخشية منه فى النفوس ، والذي يقرأ في كتب التاريخ والسير والتراجم الإسلامية يجد فيها كنزاً حافلاً بالنماذج التربوية والتى تزهو بها أمة الإسلام على غيرها من الأمم ، ومن ذلك ما ذكره أبو حامد الغزالي في إحيائه عن العابد الزاهد سهل بن عبد الله التُستري قال: كنت وأنا ابن ثلاث سنين أقوم بالليل فانظر إلى صلاة خالي (محمد بن سوار ) , فقال لي يوماً . ألا تذكر الله الذى خلقك ؟ فقلت كيف أذكره ؟ قال: قل بقلبك عند تقلبك فى فراشك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك : الله معى , الله ناظري الله شاهدي فقلت ذلك ليالي ثم أعلمته فقال : قل فى كل ليلة سبع مرات ,فقلت ذلك ثم أعلمته فقال :قل ذلك كل ليلة إحدى عشرة مرة ,فقلته ,فوقع فى قلبي حلاوته ,فلما كان بعد سنة قال لى خالي : احفظ ما علمتك ودم عليه إلى أن تدخل القبر , فإنه ينفعك في الدنيا و الآخرة فلم أزل على ذلك سنين , فوجدت لذلك حلاوة في سري , ثم قال خالي يوماً : " يا سهل من كان الله معه , وناظراً إليه وشاهده أيعصيه ؟ إياك والمعصية"  وبهذا التوجيه السديد والترويض المستمر والتربية الايمانية  أصبح سهل رحمه الله من كبار العارفين .

وهذا سفيان الثوري  رضي الله عنه يقول: لما كان لى عشرة سنين أعطتنى أمي صرة دراهم وقالت لى : يا ولدي يا سفيان خد هذه الدراهم واغدو إلى العلماء , علماء الأمصار , كعمرو بن دينار ومحمد بن شهاب الزهرى وتعلم منهم جملة أحاديث وانظر يا ولدي إن رأيت هذه الأحاديث قد غيرت من منطقك  ومشيتك وجلستك وهيئتك فلزم هذا الطريق وإلا لا حاجة لنا به - هذا هو الهدف  من العلم (التزكية) -  قال سفيان فحفظت وصية أمي فلو رأيتني وأنا ابن عشر طولي عشرة أشبار وذيلي بمقدار ومقلمتي كالجوزة ومحبرتي كاللوزة وقلمي كذنب الفار , أغدو وأتردد إلى علماء الأمصار كالزهري وعمرو بن دينار  فإذا ما أقبلت قالوا : افسحوا للشيخ الصغير .

 وهكذا نرى من خلال هذه القصة دور المرأة المسلمة فى تربيتها أبناءها وحرصها على الجانب الأخلاقى والسلوكى .

ومن طريف ما يروى تعويد السلف أولادهم على الصدق ومعاهدتهم عليه هذه  القصة : يقول العالم الربانى الشيخ عبد القادر الكيلانى رحمه الله : بنيت أمري من حين نشأت على الصدق , وذلك أنى خرجت من مكة إلى بغداد أطلب العلم , فأعطتني أمي أربعين ديناراً أستعين بها على النفقة , وعاهدتنى على الصدق , فلما وصلنا إلى أرض همدان خرج علينا جماعة من اللصوص فأخذوا القافلة , فمر واحد منهم وقال لى : ما معك ؟ قلت : أربعون ديناراً ,فظن أني أهزأ به  فتركني , فرآني رجل آخر , فقال : ما معك ؟ فأخبرته بما معي , فأخذني إلى كبيرهم , فسألني فأخبرته , فقال : ما حملك على الصدق ؟ قلت : عاهدتنى أمي على الصدق فأخاف أن أخون عهدها فأخدتْ الخشيةُ رئيس اللصوص , فصاح ومزق ثيابه , وقال: أنت تخاف أن تخون عهد أمك وأنا لا أخاف أن أخون عهد الله ؟.... ثم أمر برد ما أخدوه من القافلة وقال : أنا تائب لله على يدك , فقال من معه : أنت كبيرنا فى قطع الطريق , وأنت اليوم كبيرنا فى التوبة فتابوا جميعا ببركة الصدق .

وأختم بهذه القصة التي  ذكرها الأستاذ مصطفى السباعي- والتي تبرز دور الأم فى التربية -  قال في كتابه (أخلاقنا الاجتماعية) : " حكمت إحدى المحاكم على سارق بعقوبة القطع فلما أرادوا تنفيذ العقوبة قال لهم بأعلى صوته: قبل أن تقطعوا يدي اقطعوا لسان أمي , فقد سرقت أول مرة فى حياتى بيضة من جيراننا فلم تنهني ولم تطلب إلي إرجاعها إلى الجيران بل زغردت وقالت : الحمد لله لقد أصبح ابني رجلاً فلولا لسان أمي الذي زغرد للجريمة ما كنت فى المجتمع سارقاً.

البث المباشر