لم تكن ألحان أنشودة "فرشي التراب يضمني" التي ترددت على لسان علاء الزاملي في أروقة منزلهم محض صدفة، إنما كانت استقبالًا لخبر استشهاده الذي باغت المنزل نهاية يوم الجمعة الثانية من مسيرة العودة.
الرسالة التي وصلت إلى يحيى الزاملي والد الشهيد مفادها "دير بالك على علاء" على لسان جدته كانت متزامنة مع نقل علاء من مكان إصابته شرق مدينة رفح إلى المستشفى، دون دراية منهما.
لم يغب صوت الشهيد علاء عن المنزل، فما زال عصفوره الأبيض يزقزق في أرجاء البيت، والذي كان خلفية لحديث العائلة عن "نوارة البيت" كما يصفونه، بعد أن رحل تاركًا صورة الضحكات لرفيقته الصغيرة "آية".
والدة الشهيد التي اختارت الجلوس إلى جوار صورته ما زالت تذكر ضحكته الأخيرة التي عكستها مرآة البيت، حينما ناداها علاء "ماما هذي الك" ملقيًا غمزة من عينه، يغازل أمه التي ستبحث عن رجل في سن صغير من بين أشقائه ليكون "رجل المهمات الصعبة" الذي يعيد إصلاح صنبور المياه كما فعل هو قبيل استشهاده بيومين.
ليلة الجمعة الأخيرة في حضور علاء ابن الخمسة عشر ربيعًا بين عائلته، تقاسم مع والدته خبيز الخبز الذي تناول آخر كسراته على مائدة الجمعة، وعلّهم أكلوا جميعًا من الخبز الذي استوى على يدي علاء وطبع عليه لمساته الأخيرة.
تمتمة الجدة التي رسمت المآسي على وجهها خطوطًا لا تنتهي كانت كافية بالإعلان عن حبها لعلاء، وحزنها على رحيل الولد البكر لابنها المقرب يحيى، "يرحمه الله، يرحمه" تركناها وهي لا تزال ترددها.
لا يدري والد علاء كيف سيأتي العيد المقبل عليه دون أن يرافقه خليفته في البيت، وقبله لا يدري من سيوقظه إلى صلاة الفجر إن فاته صوت المنبه، كما سيفتقده حينما يجلس لمتابعة النشرات الإخبارية، وذاك الإنصات إلى أحاديث البلاد التي كان ينقلها الوالد عن الجدة.
"آية" الطفلة التي انشغلت في النظر إلى عدسات الكاميرات تارةً، وأخرى وجهتها إلى صورة علاء التي ترجو منها أن تسد مكان علاء، كأن تحنو عليها، وتسير بها إلى السوبر ماركت لشراء حاجيات ظهر كل يوم، وهو موعد عودة علاء من مدرسته، حينما تقف على عتبة المنزل وتنادي مخبرةً أهل البيت: "روح علاء روح علاء".
ارتاح قلب والد علاء حينما رآه نائمًا بعد ظهر الجمعة الثانية من مسيرة العودة، فعلاء لن يتقدم الصفوف كما الجمعة الأولى، ولن يقلقه مجددًا، فأخذ بقية الأطفال إلى مخيم العودة شرق رفح، إلا أن والده لم يحسب حسبانًا لنداء صلاة العصر الذي يمثل منبهًا لا يقبل الغفوة.
توضأ وودع أمه إلى الصلاة في مسجد الرحمة القريب من البيت، رافقه ابن عمه حسن، ليهمسا في أذن بعضهما بعد الفراغ من الصلاة، أن كيف لشمس الجمعة أن تغيب دون أن يسجل علاء حضوره في مسيرات العودة، فأقبلا إلى الحدود الشرقية، نصف الطريق ركوبًا، والآخر مشيًا على الأقدام عدة كيلومترات.
"كده ميتين وكده ميتين، نموت فدا الوطن" لم يكن حديث علاء لأمه فقط في أروقة المنزل البعيد عن الحدود كثيرًا، بل كانت آخر حروفها التي حملها أمانة إلى ابن عمه حسن على مقربة من جنود الاحتلال، فكان له ما تمنى برصاصة قناص، اخترقت رقبته، ليرتقي شهيدًا.
علاء قد رحل، بينما قائمة كبيرة بمن سيفتقده في قادم الأيام سجلتها "الرسالة"، كمساعدته لأمه، ومرافقته لأبيه، ودلاله لشقيقته آية، ومجلس الفجر، وحلقات حفظ القرآن، وأبناء صفه الثالث الإعدادي "5"، وابن عمه حسن الذي ما زال دمه على ملابس الجمعة، وجدته التي تنتظر عودته، وأرضٌ أحبته بعد أن سقاها دمه.