من يقنع "منة" أن التصوير هواية وليس واجبًا بعد اليوم!، ثم من يقنعها أن علم الفلك الذي كانت تحلم به أكثر إثارة من ارتداء درع "برس" وتصوير غزة وأوجاع أهلها!، كيف ستدرك وهي في الثالثة عشر من عمرها أن الفيلم الذي بدأ ياسر مرتجى بتصويره والتي كانت إحدى لقطاته قد انتهى بمشهد وداعه ودموع أصدقائه!
تساؤلات كثيرة تدور في خلدك قبل الحديث مع الطفلة "منة قديح" التي أثارت استغراب كل المتواجدين على حدود قطاع غزة شرق خانيونس، ولم نكن نعلم أن لكل سؤال خطر لنا جوابًا تحدثنا به بكل ثقة!
طفلةٌ هاوية للتصوير بعمر "قديح" يخطر على بالك للوهلة الأولى أن تمتلئ ذاكرة الكاميرا الخاصة بها بصور الورد والطيور وضحكات الأطفال، قبل أن تلمح توقيع اسمها على أحد صور الكوشوك الذي أشعله شاب ثائر على الحدود!
في الجمعة الأولى من مسيرات العودة انطلقت "منة" وعائلتها المهجرة من مدينة "يافا"، فاستقرت عائلتها في الخيام بينما هي كانت في صفوف الصحفيين الذين يوثقون الأحداث.
صغر سن "منة" لفت انتباه الجميع، منهم الشهيد "ياسر مرتجى" الذي كان يصور شرق خانيونس فيلمًا وثائقيًا عن مسيرات العودة، تحكي منة: "كنت كتير مبسوطة انه ياسر صورني للفيلم ما كنت متوقعة انه يتصاوب ويستشهد".
"قنبلة غاز تحتها علم فلسطين" كانت أول الصور التي التقطتها "منة"، بينما كانت الصورة الأكثر لقلبها كما تحكي تلك التي وثقتها لياسر وقت إصابته، "كنت حزنانة كتير بس من قهري صورته" تقول.
صور المسعفين في الخيام الطبية، والصحفيين الذين ينقلون الحقيقة والشباب الذين يشعلون الكوشوك، والأطفال يحلقون بالطائرات الورقية كانت تراها "منة" أهم الصور في ألبوم مسيرات العودة كما أخبرت "الرسالة".
تشد "منة" درع الصحافة جيدًا قبل أن يجتمع عليها أطفال من قرية "بيت جرجا" يطلبون منها تصويرهم فواحد يحمل علم فلسطين وآخر يحمل لافتة كتب عليها "سنعود قريبًا يا بيت جرجا"، تحكي وهي تجهز إعدادات الكاميرا: "سأستمر في مهنة التصوير كي أنقل حقيقة الاحتلال الذي يقتل الطفولة في فلسطين".
هروب الناس من الغاز الذي يطلقه الاحتلال على الحدود يقابله تقدم طاقم الصحفيين لينقلوا الصورة كاملة، بشغف كبير تحكي "منة": "بعد استشهاد ياسر صممت على مشواري وحأضل مكملة".
فاستشهاد ياسر لم يخف "منة"، بل زادها إصرارًا لأن توجه كل ميولها إلى دراسة الصحافة ونقل أوجاع الناس، حيث أصبح الملهم لها "لم أنسَ ضحكات ياسر وهو يصورني ولا تشجيعي وتحفيزي".
ضحكات الأطفال أمام الخيام عند اجتماعهم حول "منة" لرؤية الصورة بعد التقاطها كان لافتًا، فأينما تتواجد وكاميرتها يكون هناك أطفال يتحلقونها.
فلا يزال شكل الطفل الذي عكسته أشعة الشمس على تراب إحدى البقع في خيام العودة حاملاً مفتاح جدته من قرية بيت جرجا موجوداً في ذاكرة كاميرتها، "كانت هذه الصورة الأقرب لقلبي منذ بدء المسيرات".
حيث صورة الأطفال الثلاثة الذين اصطفوا لتوثق لهم "منة" تحليق العلم عاليًا كانت الأقرب لقلبها منذ بدء مسيرات العودة، لا سيما وأن الشمس زادت الصورة جمالًا كما تحكي "منة" حيث عكست بأشعتها ظل طفل كان يحمل مفتاح العودة على الأرض.
إطلاق الجنود المدججين بالسلاح النار على المسعفين والصحفيين بشكل عشوائي في الجمعة الثالثة أخاف "منة" قليلًا، وهي ترى أنها على مرمى قناصهم من مسافة صفر، غير أن قوة كبيرة سكنت قلبها كما تقول كلما زادت جرائمهم لتوصل الحقيقة للعالم.
كان من الصعب أن تحصر "منة" قائمة طموحاتها في جواب، حين سألتها "الرسالة" عن أحلامها، "بدي أصير صحفية عالمية وأوصل لكل العالم انه أطفال غزة بيحبوا الحياة والسلام وأحكيلهم من خلال صوري انه غزة أحلى من غير نار الاحتلال ورصاصهم".
التجول في أزقة "يافا" وتصوير مواسم البيدر والحصاد فيها وبحرها وبيارات برتقالها أكبر الأماني قلب "منة"، حيث أحاديث جدتها عن يافا وأبوابها الخشبية جعلت عيونها ترنو إلى ما وراء السياج، "سنعود إلى يافا وألتقط صور لجدتي التي حدثتني كثيرًا عن بحر يافا وبرتقالها وصياديها".