رحل محمد قبل أن تجف ملابسه التي علقت على أحبال الغسيل أمام بيتهم في زقاق مخيم جباليا حيث يعيشون، ودون أن يخبر أمه عن سر الرسومات والحروف التي ينقشها على بنطاله.. ذهب دون أن يعيش انفراجة لطالما سمع بها، رحل للسماء دون أن يعوضه أبوه عن أشهر الحرمان التي عاشها وإخوته منذ قطع راتبه.
الوعود التي قطعها أبوه له أن يجلب له "التابلت" الذي يحب، وأن يحقق أمنياته الطفولية بمجرد إعادة صرف راتبه، انتهت بصرخة أبيه عند جثمانه في ثلاجة الموتى: "سامحني يابا الي شهر مش قادر أجيبلكم أكل".
زقاق ضيق طويل بين بيوت متلاصقة يوصلك إلى بيت الشهيد "أيوب" يعمه الهدوء الذي يمكن وصفه بـ"القاتل"، على عكس ما تسمع عن أزقة المخيمات التي تضج بأصوات الأطفال وتسامر النسوة أمام بيوتهن.
ثمة امرأتان تخرقان جدار الصمت الذي تلحظه وأنت في طريقك إلى بيت الشهيد، كانتا تقفان على شباكين تتجاذبان أطراف الحديث.
استوقفنا قول إحداهما "من ايمتى وشارعنا بيكون هدوء هيك! الله يرحمك يا محمد كنت فاكهة هالمخيم"، لترد الأخرى بعد تنهيدة وهي تشير بيدها إلى صورته المعلقة: "شب زي الوردة.. صار ذكرى وصورة"!
حين تبدأ الحديث مع أم الشهيد "محمد أيوب" (13 عامًا) تخال أن الشاعر محمود درويش قد كتب عنها مقطوعة "أجمل الأمهات" حين قال: "أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها.. أجمل الأمهات التي انتظرتهُ، وعادْ…عادَ مستشهداً... فبكتْ دمعتين ووردة، ولم تنزوِ في ثياب الحداد".
"غنيت زغردي يا ام الشهيد" تحكي أمه، حيث كانت في جلسة عائلية وراحت ترددها، قبل أن يسكتها الجالسون خوفًا من حدوث شيء، "كان هذا قبل ساعة من استشهاده" تكمل.
كان يوم الجمعة الماضي ذا تفاصيل وطقوس أخرى غير التي اعتادت عليها الأربعينية "رائدة أيوب" والدة الشهيد الطفل، ترويها لـ"الرسالة" بدهشة كبيرة.
حيث هدوء "محمد" الذي لم تعتده في حياتها، وتنظيفه للبيت لأول مرة بعد أن أخبر أمه: "حاسس حييجوا كل قرايبنا عالبيت، لازم يكون مرتب ونضيف"، ورفعه الطعام بعد الانتهاء، حيث كان حرصه لافتًا كما تحكي.
وقت العصر وكي تسكت الأم "زن" ابنها للذهاب لمسيرات العودة، أقنعته بأن يرافقها إلى بيت جده، فذهب معها ليجد الجميع قد ذهب إلى الحدود "جن جنونه وقتها" تكمل أمه.
لم تدر الأم كيف تسلل طفلها من بين المتواجدين في بيت جده، لتراه زوجة خاله على السلالم فتسأله إلى أين فيجيب: "احكوا لإمي رايح عالحدود.. احكولها ساعة وراجع".
"أوفى بوعده.. بعد ساعة رجع.. بس رجع حمادة بدمه"، تحكي الأم وما فتئت تنظر إلى الصورة المعلقة على الجدار قبالتها تبتسم له ثم تشيح النظر لتكمل حكاياها معه، "كان حمادة روح الدار بشقاوته".
في بيت الشهيد تتساءل كيف لحلم أن يكون سلوانًا لقلب أم فقدت طفلها الذي تفتحت براعمه أمام ناظريها طوال ثلاثة عشر عامًا، حيث رأته إحدى قريباته في منامها وهو يلوح لأطفال غزة بيد من نور، لتشعر الأم أن دم ابنها وتقديمها له على عتبات العودة قد يكون سببًا للفرج عن غزة وأطفالها المحرومين من هنيء الحياة.
كبيرات السن في المخيم سيفتقدن "أيوب" الذي كان "على الندهة" بمجرد مناداة إحداهن "يا حمادة"، فمرة ليناولهن غرضًا ومرة يتعكزن عليه لقطع الشارع وأخريات يمازحنه بالقول إن الفوضى في أزقة المخيم بسبب ضحكاته وصوت "الفطبول" الذي يلعب به.
كانت أمه تعلم أن أزقة المخيم لا تسمح لابنها بأخذ راحته في الشقاوة وهو الذي وصفته "كتير حركة"، فأراد مساحة أكبر، أرضًا أوسع.. كان يقول لها دائمًا: "يما بدنا نرجع على برير غصبن عنهم".
أما والده إبراهيم أيوب لم يكن يعلم أن حلم طفله بأرض واسعة سيتحقق في العشرين من نيسان، حيث ذهب إلى مكان أوسع من "برير" الذي كان يحلم باللعب في أزقتها، وأن رصاصة غادرة قنصه بها جندي يتخفى خلف تلال الرمال على الحدود ستجعل صدى ضحكات طفله ومشاكساته مدعاة لبكاء قلبه!
تسبيلة عيني "محمد" بهدوء عند استشهاده كأنه نائم، والحروف المرسومة على بنطاله، وما حمله حفنة من تراب الأرض في يده.. تفاصيل كانت ملهمة للرسامين في العالم فرسمه كل بطريقته.
حفنة التراب التي بيده استبدلها أحد الرسامين بوردة حمراء نازفة وراح يتساءل: "مات وهو يشد على الزهر الذي دفن معه، أرأيت كيف يموت الأبطال دون أن يسمع بهم أحد؟ أرأيت؟".