الداخلية: نوعي المجتمع بضرورة التفريق بين العميل وعائلته
أخصائي نفسي: يجب مؤازرة هذه العائلات للتخفيف عنها
أخصائي اجتماعي: هذه الثقافة يجب معالجتها دينيا واعلاميا
الرسالة نت- فادي الحسني
يلصق المتجمع وصمة "عار" أبدية على جبين ذوي "العملاء"، فيحطون من قدرهم ويرفضون مصاهرتهم بذريعة أن "العرق دساس"، فضلا عن حرمان بعضهم من الوظيفة لدواعي أمنية.
بين عشية وضحاها ينقلب ابن "الجاسوس" أو شقيقه أو أحد أفراد أسرته، إلى شخص شاذ منبوذ ، دون أي ذنب اقترفه، ويصبح أسيرا لنظرة دونية تحط من قدره.
ويبدو أنه كلما زاد الكشف عن "عملاء" جدد، يزاد أيضا عدد الضحايا الذين يدفعون ثمن خطيئة لم يرتكبوها، فهل يحق للمجتمع محاسبتهم؟ وكيف يمكن معالجة هذه الأزمة ؟ وما رأي الشرع بها؟.
يختلف ضحايا
وتعتبر الجاسوسية ظاهرة قديمة قدم التاريخ فقد عرفها الإنسان وفهم أساليبها بنفس المفهوم الحديث , و ضحاياها يختلفون من مجتمع لآخر.
ويسير (ن.ب) منكسا رأسه، يختلس النظر إلى من يقابله بشيء من الخجل ليس لأنه اقترف ذنباً بل لأن نظرات الناس أشبه باللعنات التي تحل عليه كلما مر بهم، ويقول إن الناس تحمله وزر تخابر شقيقه مع الاحتلال.
ويضيف (ن.ب) في الثلاثين من عمره :"نظرة المتجمع لنا كذوي عملاء، هي نظرة دونية(..) كم هو صعب أن تقرأ في أعين الناس النفور واللعنة دون أي ذنب تقترفه".
وأكثر ما يؤثر في (ن.ب) الذي قتل شقيقه على خلفية "العمالة" هو تخلي أصدقاؤه عن العلاقة التي كانت تربطهم، معتبرا أن المتجمع قد ظلمه وأسرته رغم مناداتها بقتل ابنها –الذي باع الوطن والدين- حتى قبل أن ينفذ فيه الحكم القانوني.
وقال :"نحن كعائلة محافظة تربت على الأخلاق الحسنة، لن نقبل أن يكون منا شخص خائن، ونحن أول من طالبنا بإعدام شقيقي، لكن المتجمع وبكل أسف يحاكم الأسرة بأكملها، ويحملها وزر خطيئة ارتكبها ابنا شاذا".
بينما اعتبر (س.أ) أنه من الجور أن يتهمه المجتمع بالانحطاط الأخلاقي، رغم أنه لم يؤذ أحدا ولم يقترف ذنبا سوا أنه ابنا لعميل، كما قال.
واستهجن (س.أ) الحكم على شقيقته بالعنوسة، انطلاقا من مبدأ "العرق دساس" ، ويتساءل مستغربا: "إن كان أبي قد ارتكب جريمة بحق الدين والوطن، فلم نحاسب نحن!".
وأشار إلى أن النظرة المجتمعية السلبية لعائلته لا تقف عند حدود توقيت زمني معين، بل تبقى وصمة عار في جبينها إلى يوم الدين.
ويذهب (أ.ك) إلى ما ذهب إليه سابقوه، حيث كشف عن أن مؤسسة رفضت قبوله كموظف رغم كفاءته، وذلك لدواع أمنية، تمثلت في كونه شقيقا لـ"عميل" الأمر الذي رأى فيه أنه إجحاف بحقه وبحق أسرته.
ولفت (أ.ك) وهو أب لأسرة مكونة من ستة أفراد، أنه يعاني شظف العيش، ويعتاش على المساعدات رغم حصوله على شهادة جامعية تؤهله من العمل كموظف.
محاولة الانتحار
وربما كانت حالة الشاب "أ.ح" الذي قُتل والده على خلفية "العمالة" الأكثر تعقيداً، حيث اعترف أنه حاول الانتحار مرارا لولا إنقاذ والدته له بقولها: "من يحمي أخواتك فأنت سندهم".
ويتساءل "أ.ح" الذي جهل في طفولته سبب وفاة والده، "ما ذنبي إن كان أبي عميل؟ لماذا يحاسبوني على ذنب لم ارتكبه ؟.
ولفت إلى أن المسجد كان الخلاص بالنسبة له لتجنب فكرة الانتحار التي راودته باستمرار، وقال: "لجأت إلى الله ودخلت المسجد وبدأت أحفظ القرآن حتى لا تراودني فكرة الانتحار".
وبين الشاب أن الالتزام بالصلاة والدين كان الباب الذي دخل من خلاله إلى المجتمع بأكثر إرادة وعزيمة.
ويعتبر قطاع غزة مجتمعاً محافظاً، لا يغفر الخطيئة مهما صغر حجمها أو كبر، فضلا عن أن للشرع الكلمة الفصل في الأخطاء التي يقترفها أفراده.
و يعرف العميل في المجتمع الفلسطيني على أنه ذلك الشخص الدنيئ الذي قبل على نفسه الذل بائعا بذلك كرامته و إنسانيته إلى الاحتلال "الإسرائيلي" و مساعدته في تخريب بلده أمنيا وسياسيا و اقتصاديا.
وتأكيدا على أن المتجمع قد يصدر أحكاما جائرة بحق ذوي العملاء أو من اتهموا بالوقوع في وحل العمالة، فإن أبو أحمد في عقده الرابع يتجنب الحديث مع جاره الذي أفرجت عنه الأجهزة الأمنية بعد اعتقال دام عدة أشهر، بعد التأكد من عدم ثبوت التهمة الموجهة إليه وهي التخابر مع العدو.
ويبرر أبو أحمد موقفه قائلا:"أحاول أن أتجنب الشبهات ليس إلا.. قد لا أظن في الجار ظن السوء ولكن الاحتكاك بأشخاص قد اتهموا بالعمالة، ربما يجرنا إلى دوامة نحن في غنى عنها".
واستجاب لمبادرة وزارة الداخلية بقطاع غزة - التي فتحت مؤخرا باب التوبة أمام العملاء - العشرات ممن وقوع في هذا الفخ، حيث سلموا أنفسهم وخضعوا للتحقيق.
لكن الداخلية أكدت أنها لن تفصح عن أسماء التائبين حفاظا عليهم وعلى عائلاتهم.
وقال إيهاب الغصين المتحدث باسم وزارة الداخلية لـ"الرسالة نت" : "الذين سلموا أنفسهم، أغلقت ملفاتهم ولم ترفع للقضاء، لكن المتابعة الأمنية ستبقى قائمة للتأكد من صدق توبتهم"، مبينا أنه من ألقي القبض عليه بعد إغلاق باب التوبة سيجري محاكمته.
خطأ لم يتركب
وأوضح الغصين أن وزارة الداخلية تحرص على التوعية بضرورة التفريق بين العميل وعائلته، مشددا على ضرورة ألا تعاقب عائلة العميل على أخطاء لم يرتكبوها.
وبين أن محاسبة أهالي العملاء على ذنوب اقترفها أبناؤهم، فيه إعانة على الانزلاق في وحل التجسس، منوها إلى أن الكثير من أهالي العملاء رغبوا في تصفية أبنائهم-الجواسيس- انتقاما منهم.
وقال :"الكثير من الأهالي رغب في الانتقام من أبنائهم المتورطين في العمالة، وهذا ينم عن وعي الشعب، ودليل على أن عائلة العميل قد لا تكون راضية على ما ارتكب ابنها من جريمة بحق الوطن".
ولان النظرة السلبية لذوي العملاء قد تودي إلى منزلقات خطيرة، فإن د.درداح الشاعر أستاذ علم النفس بجامعة الأقصى، يرى أنه من الضروري المحافظة على مثل هذه العائلات (أي عائلات العملاء) وتقديم كافة أشكال الدعم لها، خاصة وأنها قد تفقد عائلها، كما قال.
وأرجع الشاعر أسباب نظرة المتجمع السلبية لذوي العملاء، لأن المجتمعات الشرقية تعتبر التخابر مع الاحتلال شكل من أشكال العار، وتسجل وصمة أخلاقية في جبين العميل وعائلته، وتعتبر أنه من العيب التعامل معها أو الاحتكاك بها.
وتعتبر الجزائر نموذجا يحتذى به، في الحفاظ على النسيج الاجتماعي، حيث استطاعت أن تتخطى النظرة الدونية لعائلات الجواسيس، مشددا على ضرورة أن تقدم لهذه العائلات كافة أشكال الدعم التي من شأنها أن تعينها على الحياة.
وقال الشاعر: "نحن كمجتمع طيب وأصيل يجب أن ندعم هذه العائلات ونقوم بحملة مؤازرة لها للتخفيف النفسي عنها"، مشددا على ضرورة ألا تتحمل عائلة العميل ذنب أبنها.
وأضاف "الخطر يكمن في أن النظرة القاسية لذوي العملاء قد تودي للانزلاق في وحل العمالة شأنهم في ذلك شأن أبنائهم"، مشيرا إلى أن توفر اليد الحانية والرحيمة وتقدير المجتمع لموقفهم قد لا يدفعهم نحو الانزلاق في مستنقع التجسس، ويساعدهم على البقاء.
في الوقت ذاته شدد الشاعر على أهمية أن يحتضن المتجمع هذه الأسر، لاسيما أنه أصابها ما أصابها من معاناة نتيجة فقدان ابنها وينالها أثرا نفسيا وأخلاقيا، موضحا أنه من الضروري محاربة النظرة السلبية لهذه الفئة من المجتمع وذلك حفاظا على النسيج الاجتماعي.
المعالجة ضرورية
بدوره اعتبر أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الإسلامية د.جميل الطهراوي، أن معالجة النظرة السلبية المجتمعية لذوي العملاء، ليس بالأمر السهل، لكنه شدد في الوقت نفسه على ضرورة معالجتها.
وقال الطهراوي: "هذه عملية صعبة لكن من الممكن معالجتها"، مبينا أن صعوبة المسألة تكمن في الثقافة المجتمعية التي لا تتقبل جريمة "كالتجسس".
وأفاد بأن دور وسائل الإعلام مهم جدا في توعية المتجمع ونصحه بضرورة عدم محاسبة عائلة العميل على ذنب اقترفه واحد من أبنائهم.
كما شدد الطهراوي على أهمية أن يقدم رجال الدين النصيحة أيضا للمجتمع، خاصة أن هناك أمثلة قوية مرت عبر التاريخ الإسلامي "فسيدنا نوح كان أب صالح لابن فاسد".
واستشهد بالآية القرآنية التالية: "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى"، موضحا أن التأثير لا يقتصر على النظرة السلبية، بل يترتب عليه إجراءات كعدم الزواج من ابنة العميل أو رفض بالارتباط بابنه، فضلا عن تأنيبهم والتحقير من شأنهم.
وقال أستاذ علم الاجتماع: "يجب ألا نسلم بالثقافة المجتمعية، لأن الموضوع بحاجة إلى توعية وربط هذا الأمر بالدين الذي يحاسب كل إنسان على ما اقترف..الهدف الأساسي هو أن يكون المتجمع متماسكا خاليا من الحقد والضغينة".
ويبقى أهالي العملاء وذووهم أسرى لعنات المجتمع التي تحاصرهم، إلى أن تتكاثف الجهود لمعالجة هذه الأزمة التي من شأنها تمزيق النسيج الاجتماعي.