على عجالة ومع اشراقة يوم 14 مايو سارع الشهيد محمد المقيد في تناول افطاره، وحزم أمتعته متوجها إلى الحدود الشرقية لمدينة غزة؛ ليشارك في مليونية العودة، وينال ما تمناه منذ أشهر بالالتحاق بركب الشهداء.
لم تدرِ والدة محمد أن يوم الإثنين سيكون الأخير الذي تتناول فيه فطور الوداع مع قطعة قلبها الوحيدة الذي أنجبته بعد خمسة بنات، ليزف محمد زفة العرسان ويحضر جميع أفراد عائلته حفل قدومه قبل عقدين من الزمن.
هو ذاته المشهد يتكرر مرة أخرى بعد أن غادر محمد سريعا ولحق بركب الشهداء، تاركا خلفه نظرات تلاحق والدته في كل مكان، وسيرة حسنة يرويها من عايش حياة الشاب صاحب العينيين الخضراوين.
اعتاد الشهيد العشريني على تجهيز مقلاعه والمشاركة في مسيرة العودة وكسر الحصار بشكل مستمر منذ بداية انطلاقها قبل قرابة الشهرين إلى أن ارتقى شهيدا، ليسبق ويعيش حياة الخلود بعد أن كان يتمنى العودة إلى قريته المحتلة نعليا.
محمد صاحب القلب الحنون والضحكة الدائمة الذي يتفقد عائلته باستمرار، تلك أولى الكلمات التي نطق بها لسان أم الشهيد المتلعثم من لوعة الفراق لـ "الرسالة" مستذكرة فرحتها الأولى والكبيرة التي انتابتها بقدوم ابنها الوحيد.
ومع رنين هاتفها الذي صاحبه شعور بالغرابة هذه المرة وعلى غير العادة التي كانت تستقبل به اتصالات ابنتها رجاء المعتادة، بدأت تدرك أم محمد أن ثمة شيئًا حصل لفلذة كبدها، قبل أن تفاجئها ابنتها بصوت مرتعش "محمد استشهد شفته صورته هتو يما".
لم تتمالك الأم المكلومة نفسها بعد تلك العبارة وسقوط الهاتف من يدها، وكلمح البصر ارتدت عباءتها على عجالة وخرجت إلى الشارع المقابل لمنزلها في منطقة الشيخ رضوان، تنادي "ارجع يا محمد".
عاد محمد لكن هذه المرة محمولا على الأكتاف لتلقي والدته عليه نظرات الوادع الأخير وتهمس في أذنه بعد عناق طويل" سامحني يما انا راضية عنك وقلبي وربي راضيين عليك".
وبصوتها النحيب وقبل انفجار عيناها بالبكاء تختم أم محمد حديثها قائلة " نظرات محمد بتلاحقني وين ما أروح مش قادر يفارق خيالي"!
كوجه البدر ورائحة المسك تفوح من دمائه، هكذا بدأت شقيقة الشهيد رجاء حديثها عن محمد خلال وداعها له، مضيفة " هذا الاشي أبسطني كتير كتير وخلاني مرتاحة رغم وجع فقدانه".
وبنبرة حزينة تروي رجاء لـ "الرسالة" حديثها " كنت اتصفح على الفيسبوك وأتابع أحداث مسيرة العودة وقرأت خبر وجود شهيد مجهول الهوية وقفت عند صورته وجدته محمد، قلبي حسني انه أخوي رغم الدماء على وجهه".
رحل محمد شهيدا وبقيت نظراته تلاحق والدته وعائلته ومحبيه، وتلعن أعتى ترسانة تفتك بأطفال وشباب عُزل خرجوا يوما مطالبين بحق عودتهم إلى بلادهم التي سُرقت منهم ذات يوم.