صرخ الشباب "إصابة خطيرة" فأفسح لهم المحتشدون أمام قسم الجراحة، فدخلوا به لمدة خمس دقائق ثم نقلوه إلى قسم الأشعة وبعدها إلى قسم العمليات ليستقر الأطباء به في قسم الباطنة.
كانت "الرسالة" متواجدة يوم الرابع عشر من مايو في مستشفى الشفاء بغزة، توثق جرائم الاحتلال وتنقل شراسته ضد المتظاهرين السلميين، ما أثار استغرابها، فكيف بحالة خطيرة كالجريح "محمد عليان" أن يضعوه في قسم الباطنة!
اقتربنا من سريره.. الصمت الذي كان سائدًا حوله من أقربائه اخترقه صوت شاب يجلس على الأرض بجانب سريره يبكي بحرقة وكأنه يناجي الله ويردد "يارب يعيش يارب يعيش".
صوت نحيبه علا حين أخبرهم الطبيب أنه "ميت إكلينيكيًا"، وأن ساعات قليلة فقط تفصل بين وجوده بينهم واستشهاده تمامًا.
رن هاتف أحد أقربائه، كان صوت صديقه يرتجف وهو يخبر والده أن "محمد بخير"، وراح يحكي: "ما قدرت أحكيله إصابته خطيرة كتير".
كان محمد جثة هامدة.. ملامحه هادئة رغم الضجيج الذي أحدثته رصاصات الاحتلال في جسده، بينما ردد الطبيب كثيرًا: "لا أمل في شفائه".
امرأة كبيرة في السن كانت تبكي ابنها الذي بترت قدمه للتو، والتي فجعت أيضًا بأهلها في العدوان الأخير على غزة، بكت بغزارة حين رأت "محمد"، وهمست: "شب زي الوردة.. الله يحرق قلوب اليهود زي ما حرقوا قلب امه".
قائمة الشهداء المتأثرون بجراحهم، التي كانت وكالات الأنباء تزفهم إلى العلياء كل يوم، كانت تخلو من اسم "محمد" إلا من يوم السبت الذي تصدرها اسمه، وذلك بعد مليونية العودة بخمسة أيام.
"الرسالة" التي عاشت تفاصيل فاجعة ذويه في مستشفى الشفاء حين أخبرهم الطبيب أن محمد حتمًا سيرحل، كانت متواجدة أيضًا في بيت الشهيد تتلمس وجع أمه، وترصد خبايا الضحكات الغائبة التي افتقدتها عائلته.
لم نسأل أمه شيئًا.. افتتحت حديثها ببكاء مرير..تبكي ضحكاته، تبكي طفولته، تبكي عمره، تبكي ضياعها بعد رحيله".
تبكي الأم، تنظر إلى صورته، تضحك لذكريات جميلة جمعتها به، ثم تختصر كل الحكاية بقولها: "كان محمد سكرة البيت".
- محمد اصحى بدنا نروح عالمسيرة
- أنا اليوم مش رايح يا ولاء
كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة صباحًا حين أرادت "ولاء" أن ترافق أخاها "محمد" إلى حدود البريج وسط قطاع غزة، لتفاجأ الأم أنه بعد ساعة أخبرها أنه ذاهب إلى الحدود.
"عشنا خبر استشهاده مرتين"، تحكي أمه، حيث أخبرها أحد أصدقائه يوم مليونية العودة أنه قد رحل شهيدًا، "تجرعت حسرة كبيرة باستشهاده" تكمل.
حين تتحدث مع أم الشهيد "عليان" الذي لم يتعدَّ عامه التاسع عشر بعد، تدرك أن أمهات البلاد هذه يضعن نصب أعينهن عند رحيل فلذاتهن أنهم "أحياء عند ربهم يرزقون"، فلا نهاية لهم ولا موت.
فطقوس الصباح التي كانت قد اعتادت عليها أم الشهيد، تغيرت مذ رحيله!
تدخل غرفة علقت على جدرانها صورة كبيرة لمحمد، تجلس قبالتها، تحدثه عن أحداث اليوم الذي يسبق، تلقي عليه تحية الصباح، تطمئن عليه بـ"كيف صبَّحت يما"، تمسح بيديها على جبينه، تقبل صورته، تذهب إلى سريره تشم رائحة وسادته التي أبَت غسلها لتبقى رائحة "محمد" فيها، ثم تبدأ يومها !
ورد الحديقة التي كان يسقيه "محمد" والذي تناثر في مدخل بيته، أخبرتنا "ولاء" أنها حين تقطفه لتضعه على قبر أخيها تشعر وكأنه تفتح يومها بشكل أكبر بكثير من طبيعته.
هناك.. حيث يدفن "محمد"، تذهب الأم لتتفقد المكان، قالت لـ"الرسالة": "الحمد لله مبسوطة انه فيه 3 شجرات مظللة على قبره عشان ما ييجي شمس عليه"!
هناك قبر شاهد على رحيل "حلقومة البيت"، لكن حلم العودة إلى يافا والذي عُبِّد بدماء "محمد" والشهداء لن يموت أبدًا ما دام زهر برتقالها يتفتح!