إلى منطقة الزنة في بني سهيلا جنوب قطاع غزة كانت وجهتنا هذه المرة، حيث الطبيعة الخلابة والأراضي الخضراء الواسعة، التي من بين كروم عنبها وأشجار زيتونها ومساحات الخضراوات الواسعة فيها ينبت الحزن، كما كل المدن والبلدات الغزية، ففي كل بيت دمعة على فقيد.
وفي بيت أبو خاطر هناك انكسار جديد على شاب عاش وطنيا بامتياز، يبحث عن راية الوحدة فيرفعها في كل المحافل، لا ينتمي لحزب ولا فصيل، وهكذا رفعت كل الرايات في جنازته، فمن يستطيع تجاهل أسامة.
هو آخر العنقود، ابن السادسة والعشرين، ذلك الذي رحل وقلبه ملتاع على طفل يحمل اسمه قبل الوداع، ولكنه لم يأت، وترك أسامة أمه الباكية المريضة، وزوجته وحيدة بقلب مكسور ليرتقي شهيدا.
وبين الأرض والسماء وفي ساحة رملية منبسطة التقينا والد الشهيد الذي ما فتئ يردد "للرسالة" عن مناقب ابنه الهادئ، والذي يحب التسامح، فقلبه مليء بالحب للجميع، يأتيه ليطلب رضاه قبل كل نفس يتنفسه، يدعو له بأن يحفظه ويحتسبه شهيدا منذ زمن لكثرة ما شارك في نشاطات مسيرات العودة، ورغم خوفه من فقده إلا أنه لم يكن ليمنعه من الذهاب، فصوت الوطن لا يجب أن يكمم، وندداؤه يجب أن يلبى، ولا خسارة في دماء تسيل من أجل العودة.
يقول والده:" ابني مثقف، يحب وطنه، وقد كان يشعر في ذلك اليوم بقرب أجله، فقد قال لأصحابه: أنا حستشهد اليوم، وكان له ما أراد!
ولعل أكثر ما لمسناه من صور الألم على وجوه عائلته هو حزنهم لأن أسامة لم يحالفه الحظ في الإنجاب، فهو متزوج من أربع سنوات، وتلك المحاولات التي قام بها ليصبح أبا لم تكن مكللة بالنجاح، فرحل دون أن يترك لهم طفلا منه ليكون ذكرى تتراقص أمام أعينهم فتزيح عنهم لوعة الفقد ولو قليلا.
أما شقيقه الطبيب أحمد أبو خاطر فلم يقوَ على إكمال الحديث حينما غالبته الدموع وهو يقول:" كان موعدنا اليوم مع الطبيب لنقرر موعد عملية أطفال الأنابيب ولكنه رحل في ذات اليوم، وكل شيء نصيب"
كانت إصابة أسامة كمعظم إصابات شهداء مسيرة العودة، غادرة، محرمة دوليا، متفجرة تنهش الجسد تدريجيا، ففي يوم الجمعة أصيب أسامه برصاصة متفجرة في المعدة، أعطته يومين من الاحتضار لتأكل كل أعضائه الداخلية حتى تعطي فرصة للموت بأن ينسل بين الأوردة، فيسرقه من أحبته.
خادعة تلك الرصاصة، فالمصاب بها يكاد لا يكون متألما، ثم يبدأ بالسقوط شيئا فشيئا وتبدأ أعضاؤه بالتلف، وهذا ما حدث مع أسامة، بدأ التلف يصيب المعدة والطحال، وحينما وصل إلى قلبه تم تحويله سريعا إلى غرفة العمليات، في محاولة لإنقاذه.
ولم تنته المأساة هنا، فبدأت نسبة الدم بالانخفاض تدريجيا، ومع إعطائه الكثير من وحدات الدم ارتفعت فجأة من خمس درجات إلى تسعة، فلم يحتمل القلب ذلك الضخ المتواصل في محاولة إعادته إلى الحياة، فتوقف، ومعه توقفت حياة أسامة.
في منزله حيث تجتمع النساء، ويجتمع الوجع، وتتوحد الألوان فيسودها لون قاتم بروائح الحزن التي بتنا نعرفها ونشمها في كل بيوت الشهداء.
هناك جلست أمه الستينية تبكي آخر العنقود، فهي أم لستة شباب كان أسامة سابعهم، تنزل من عين الأم دمعة فتلقفها النساء من كل صوب، يحاصرن حزنها ما استطعن فتحاول تجرع الصدمة ولو قليلا، فها هو اليوم الثاني لرحيله، وهي لا تدري كيف مرت ساعات الرحيل الأولى، ولا تدري كيف ستكون الساعات القادمة، تغالبها الكلمات فلا تجد تعبيرا مناسبا عما تشعر به فتردد:" الله يسهل عليه، ويجعل مثواه الجنة، قلبي راضي عنه ليوم الدين"
أمه التي تتألم لأن ابنها لم يرزق بطفل، بقدر ما كان محبا للأطفال تضاعف حرمانه، وبقدر محاولاته وزوجته فلم يرد الله لهما ذلك، تتألم الأم وهي تقلب الذكرى وربما الندم قائلة:" كان يريد أن يقوم بعملية الزراعة قبل رمضان، فطلبت منه أن يؤجلها حتى انتهائه، وكان قدر الله نافذا قبل كل شيء"
رحل أسامه مغطى بالورود والرياحين الذي نثرته شقيقاته فوق جسده، مغطى بعلم فلسطين كما أراد، وبرحيله يصل عدد الشهداء إلى 131 شهيدا بينما يتجاوز عدد الجرحى 14000 كثير منها انتهى ببتر أحد الأطراف.