في عتمة المكان أسير قاصدا منزل أبو أحمد، تعود أن يراني في كل ليلة باستثناء تلك، التي تمن علينا فيها شركة الكهرباء بأربع أو ست ساعات مسائية من الكهرباء أقضي فيها ساعات أمام شاشة التلفاز وألعن وأسب كل العالم على متعة القتل التي تسري في عروقه، قبل أن أقفله وأخلد إلى نوم عميق، أعد قبله الأيام التي تسبق فرصة أخرى لسهرة مشابهة، ثم أحمد الله أن أبو أحمد يجلس يوميا على رأس الحارة، ينتظر زائرا مثلي أرسلته العتمة، ليقضي ساعاتها بجوار كانون النار مثرثرا، مقلبا أحوال المدينة المتشابهة.
أشعل سيجارتي من بعيد، من شعلتها يعرف أبو أحمد أني قد سلكت أول الطريق المؤدي إلى كانونه.
أسلم عليه وأجلس مستمعاً إلى درس الحلال والحرام الذي يكرره على مسمعي كلما رآني، وثمن السيجارة الذي تجاوز النصف شيكل، والأفواه التي تستحق رغيفين من الخبز أكثر من استحقاقي لتلك الأنفاس المحرمة.
أحيانا أرى كل شيء محرم في هذه البقعة، وإن لم يحرمه أبو أحمد حرمه العالم الذي ينظر إلينا بعين الحلال والحرام، حين يتعلق الأمر بسعادة أو بصيص أمل.
مع أن أبو أحمد يرى جوعنا، وبرد أطفالنا، وحلقات الموت التي ندور فيها مفرغين من الأمل، ورواتبنا التي لم تأت منذ عام، ويعرف أيضا نظرات زوجتي الصامتة، وهي تتمتم غير مكترثة لأي شيء، وكيف تكترث لطعام أو شراب، وهي التي فقدت والديها وأشقاءها دفعة واحدة في لعنة حرب.
أخاف أن تنفجر فتهرب من عجزي يوما، لتنقذ ما تبقى من إنسانية في جسدها الذي لم يعد يحتمل ذلاً آخر.
وأنا أتقنت فن الهروب، سيجارة وكرسي بجانب أبو أحمد، أنسى بها البرد، والجوع، والكهرباء، وربما نظرات زوجتي.
انضم إلينا عطا حاملا أرجيلته ونظرت إليه غامزا ضاحكا بينما زم أبو أحمد شفتيه متمتما:هيك كملت أقلبوها كرخانه أحسن، يعدمك صحتك أنت وياه.
عطا شاب يلفه الصمت، ولا تثيره كلمات أبو أحمد ولا أي كلمة يمكنك أن تلقيها تعليقا على أسلوبه الغريب في الحياة، تخرج من كلية الهندسة وينتظر فرصة تلقيه خارج الأقدار التي يحياها.
وأبو أحمد رجل خمسيني أكل منه الدهر ما أكل وتركه على أعتاب بيت من طابقين أكمل تبليط أرضيته دينا ولم يكتمل، وفي كل جلسة يترحم على يوميته التي كانت تصل إلى ثلاثمائة شيكل حينما كان يعمل في بناء المستوطنات الإسرائيلية ويردد جملته التي حفظناها عن ظهر قلب:كانت أيام عز، أرجع لخالتك أم أحمد وكيلو الجبنة البلدية معي أتعشى فيه على قعده، الله وكيلك، لا ضغط ولا سكر، ولا هموم، وفي جيبتي يومية بمية دولار!
هل يعقل أن العمل في (إسرائيل) كان بدون هموم، هل يعقل، أم أن أبا أحمد خرفن ولم يعد يذكر سوى عد الشواكل، بعد أن أعمى الفقر بصيرته؟!
أحاول أنا عبثا بينما ينكب عطا على نارجيلته صامتا، إقناع أبو أحمد بأن المنطق الذي يحرم السيجارة هو نفسه الذي يحرم بناءه لمستوطنات إسرائيلية مقابل ثلاثمائة شيكل في اليوم.
صراخ زوجته يرتفع، والصراخ في مدينتنا يرتفع لأتفه الأسباب، وتمرد أبنائه يزداد، لم يعد يكفيهم بيت بنصف تبليط، كانوا يودون لو كان والدهم موظفا في السلطة لكان وضعه الآن أفضل وراتب تقاعده ثروة يلقفونها كل شهر كما يفعل الآن موظفو السلطة المستنكفين في بيوتهم.
وأبو أحمد يردد مؤكدا كما في كل ليلة أن هذا لم يكن رأي أم أحمد قبل أن تغلق (إسرائيل) أبوابها في وجه عمال القطاع.
تسمع همساته لنا فيرتفع صوتها مكذبة كلامه، يصرخ في وجهها، فتنقلب جلسة الكانون إلى شجار عائلي، يدخله أبناء أبو أحمد بحركة اعتيادية، فيعبثون بعقل أمهم حتى تهدأ ويهدئون من روع والدهم الذي يلقفهم بأوسخ الدعوات.
أنسحب أنا وعطا كما في كل ليلة، أضحك بأعلى صوتي، فيرتد صوت الضحكات في العتمة، حتى عطا، يضحك أيضا، نحن هكذا، نضحك ونبكي، ونبكي ونضحك، ونظل هكذا، نضحك ونبكي، إلى أن نموت!
...