كانت المرة الأولى التي وطئت قدماه فيها المنطقة الحدودية منذ انطلاق مسيرات العودة، شعر أنه تأخر كثيرا بحلول الــ 14 من مايو فانطلق منذ ساعات الصباح الأولى متجها إلى شمال القطاع ليشارك السلميين في هبتهم في وجه عدو غاصب.
بملابس "مهندمة" خرج من منزله لمشاركة جموع المحتجين، لكن رصاصة غادرة كانت سببا في نهاية المشوار قبل أن يبدأ، فكانت الزيارة الأولى والأخيرة.
ذات الرصاصة لم تستثن السعادة والبهجة في بيت الشهيد أحمد شحادة فأصابتها في مقتل، هناك شعرت "الرسالة" بحجم الصدمة والأسى رغم مرور أكثر من شهر على استشهاد أحمد إلا أنه مازال حاضرا بدموع أمه ولوعة والده وشقيقه.
في بيت هادئ وبين أسرة صغيرة وميسورة عاش الشهيد أحمد تفاصيل حياة لا يعكرها شيء، "غاب السند كان ظلي" يقول والد الشهيد، معبرا عن حجم الفاجعة التي حلت بهم بعد أن غاب دينامو "الدار": كانت يده على يدي في كل شيء هو المرسال يقضي كل شؤوني داخل المنزل وخارجه، "بيحس في من غير ما أتكلم".
"ابن غزة" كما لقبته عائلته فهو الوحيد من بين أخوته الأربعة المولود فيها فضل الموت على ثراها بعد أن رفض السفر كشقيقيه لأكثر من مرة.
بموت أحمد أسدل الستار على 23 عاما قضاها بشكل مختلف عن أخوته، " كان غير" يقول والده بتنهيدة: ملازما للمسجد، اجتماعيا صاحب شخصية قيادية متفوقا كمحام، لا يخجل من غسل الصحون لوالدته ولا حتى تحضير الطعام معها.
لم يعلم والده أن آخر العنقود كان يردد وصيته في أيامه الأخيرة، خاصة حينما عثرت والدته على قائمة بأسماء محتاجي الحي استعدادا لمساعدتهم في رمضان.
"طلب مني تقديم اللبن والتمر للمعتكفين وعندما قلت "ما انت حتوديلهم كالعادة" أجابني كي لا أنسى.. يقول والده.
دموع تلاميذه في حلقة تحفيظ القرآن كانت حاضرة خلال أيام العزاء الثلاثة فرفضوا أستاذا غيره، كما دموع جده البالغ من العمر أكثر من مائة عام والذي صرخ عاليا "يا ريت أنا ولا أنت يا أحمد"، كيف لا وهو رفيقه الذي يوصل له طعامه وشرابه ويمازحه وحمل اسم والده.
" حدث كبير يا بنتي صاحبنا" يصمت قليلا... كنت أستغرب من انتهاء مصروفه في الأيام الأولى من الأسبوع فاكتشفت بعد استشهاده أنه كان معطاء يحب الانفاق فكان (حل اللغز) يقول الوالد شحادة.
صوت أحمد الجهوري يفتقده الحي واصدقاؤه وحتى منزله بعد أن كان مستشارا لهم يحل مشاكلهم، كل من عرف أحمد سيفتقده فهو "على الندهة لكل من ينتخيه".
كلمات رددها أحمد كثيرا ومن غير مناسبة مازالت تدوي في أذن أبو العز خاصة بعدما أصبح أكثر فهما لمعناها الآن: "أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها"، لم يكن ابن دنيا " آخر همي الأكل والشرب" كان شعارا يرفعه أحمد.
رحل أحمد وبقي حبه حيا في قلب كل من عرفه، فكثيرا ما شرح نظريات القانون المعقدة لزملائه في القسم، وفي مرات أكثر وزع عليهم ملخصات للكتب التي كان يصل عدد صفحاتها لــ300 فأكثر.
خبر إصابة أحمد مازال "موجعا" ولا يفارق مخيلة والده، " توقعوا أن يكون خبر أصابته أخف وطأة على قلوبنا لكن خرجنا دون وعي للبحث عنه في مستشفى الشفاء لنكتشف بعدها أنه استشهد شمال القطاع برصاصة اخترقت صدره وأسدلت الستار على كل معاني الفرح داخل أسرتي".