بعد الآه الأولى طلب محمد من أمه انزاله عن سرير المشفى ليجرب دراجته الهوائية التي اشتراها خصيصًا لسباق الفتية في المخيم، كان ينوي الفوز فيه، كان ينوي أكثر من ذلك!
عاد لغيبوبة قصيرة وآه ثانية كانت أطول بكثير من الأولى، امتدت ليجتمع على صداها طاقم التمريض، صرخ محمد ووضع يديه على وجهه، حين أدرك أنه قد خسر السباق وساقه اليمنى كذلك!
لم تأكل قلبه الحسرة فحسب بل امتدت فابتلعت ساقه اليمنى معها، ظل صماتًا بعدها لأيام ثم طلب منهم " خلوا الدراجة ذكرى"!
رصاصة متفجرة!
قلب أم محمد كان ينزف، لكن وجهها مافتئ يرسم ابتسامة كلما ناداها محمد لتجلس بجواره على طرف السرير، مخدة وسرير طبي ومحلول علاجي يمتد عبر حقنة الى يده اليسرى، في قسم الجراحة بمجمع الشفاء الطبي كان محمد، استطاع أن يُعرف عن نفسه مع ابتسامة "اسمي محمد رائد أبو حسين، عمري 13، هوايتي لعب كرة القدم والسباحة" هواياته كانت جزءًا منه، كان معنيًا بإبرازها، لأنه الماهر في السباحة والهداف في مباريات القدم بأزقة مخيم جباليا شمال القطاع!
آخر جمعة من مايو الماضي، صعد محمد الى احدى الحافلات للمشاركة في مسيرة العودة مع أبناء جيله، يغنون، يهتفون "راجع ع بلادي" ويفكرون في لعب كرة قدم على الشريط الحدودي الشرقي لحظة الوصول.
"كنت بعيد عن السلك .. طخوني (...) مش عارف ليش الجندي طخني"! كانت كجملة اعتراضية من هذا الصغير، ولكن لا تفسير لها ولا إجابة، مرت الجملة أمامنا، جميع الزوار لم تسعفهم حروف الضاد للإجابة عن سؤاله، رفض بعدها محمد الحديث للكاميرا، عاد الصغير ليتقوقع حول حزنه وصدمته " كيف سأشارك طلال ومعاذ وأحمد لعب الكرة، كيف سأتمكن من القفز في المسبح ورشق الماء على وجه أحمد"، ظل صامتًا وعيناه فقط تسألنا!
محمد كان الدليل الأكبر على أن (إسرائيل) تستهدف الأطفال بوحشية متعمدة، رصاصة متفجرة تهشم على إثرها عظام ساقه وأوردته والشرايين معًا، لم يبق سوى انقاذ الصغير ببترها كليًا "تعلق أمه".
نَسِيت الأم أن تُعرف عن اسمها، كان جل تفكيرها أن تستهجن فعلة قناصة المحتل "ابني صغير ورجله صغيرة بتتحملش رصاصة عادية، كيف يطخوه برصاص متفجر كمان؟".
ساق رفيعة لمحمد، باتت وحيدة ممددة بشكل ثابت لا تقوى على الحركة دون أختها اليمنى، لم يتوقف ذاك الصغير عن الطلبات، كان أقساها على أمه واخوته "ادفنوا رجلي في قبر أبوي".
"اليتيم" ذاك اللقب الذي حصل عليه محمد قبل ثلاث سنوات فقط إثر وفاة والده بعد اصابته بمرض السرطان الذي استوطن جسده تمامًا كما فعلت بطفله رصاصة واحدة.
لم تكن رصاصة إسرائيلية واحدة من دخلت بيت "أبو حسين" بل كانت رصاصتان وجرحان، واحد لمحمد والآخر لشقيقه الذي يكبره بعامين فقط، حيث بات يمشي بعكازين بعد اصابته خلال مشاركته في مسيرة العودة التي تزامنت مع يوم الأرض في الثلاثين من مارس الماضي.
أبو العز تصاوب!
مختلف عن اخوانه تؤكد على ذلك أمه، تبتسم ثم تقول:" حركته كانت كتيرة، مشاغب، والده لقبه بــ "أبو العز"، تشبيهًا للعقيد في الدراما السورية "باب الحارة" لشهامته وشخصيته العنيدة، سريعة الغضب وسهلة الرضا.
"أبو العز تصاوب" رغم المحاولات لإخفاء خبر إصابة محمد عن أمه، الا أنها سمعت الصغار وأبناء الجيران يصرخون جوار بيتها " أبو العز تصاوب".
لم تجد أم الطفل محمد صاحب الإعاقة الحركية الجديدة أن تختم حديثها لتؤكد لنا أنه "بحب السباحة كتير" ثم عدلتها فبدأت جملتها بـــــ"كان"، بات الأمر شيئًا من الماضي، تود لو أن الفعل يفيد الاستمرارية، تود لو أن صغيرها يستطيع اللعب والسباحة مجددًا.
وجهت نظرتها لعدسة الكاميرا أكثر، أخفت دمعتها ثم طالبت الضمائر الحية مساعدة طفلها بتركيب طرف صناعي ليتمكن من ممارسة حياته مجددًا، ليتمكن من العودة لدراجته الهوائية والفوز بسباق جديد!