هل سيُمضي الجندي رؤيته لسعدي أبو صلاح وهو يرفع شارة النصر بيده مبتسمًا مرورَ الكرام؟، هل سيلحظ العزة في عينيه ويتركه دون أن يقتل حلمه! إذ كيف له أن يرى طفلًا فلسطينيًا وهو يعريهم أمام العالم بأنه قادر على استرداد حقه بعد سبعين عامًا ولم يفرغ حقده في جسده النحيل!
ثم ماذا؟ ثم إن على مسافة صفر من حلم العودة كان سعدي ابن الخمسة عشر عامًا، الشهيد الوحيد الذي عاد إلى قريته قبل استشهاده.
سياج كان يحول بين سعدي وحلم العودة الذي رسخ في قلبه دمعة دمعة، وهو الذي على صغر سنه إلا أنه كان يعلم أن الزيتون في أول عهده كان دمعًا ودمًا !
الغبرة تكسو ملابسه، والسواد يعم وجهه من الكوشوك المشتعل، وحين تخاطبه أمه: "بدِّل ملابسك"، يسرد لها بطولاته ورفاقه الثائرين على حدود غزة ويخبرها "غبرة الأرض شرف يما".
فمن قال إن أطفال غزة صغار؟! تدرك ذلك حين يسرد لك أطفال على الحدود كيف يخدعون العدو، حيث يربطون السياج بحبل ويصلونها بـ"صندوق كبير جدًا".
وببراءة أوشك شظف الحياة في غزة أن يقتلها، يكمل لك حديثه: "بنخدع اليهود بنخلي اولاد اتنين يجروا من جهة الشمال واتنين من جهة اليمين عشان الجندي يلتهي فيهم واتنين بيوقفوا ورا الساتر وبيشدوا الحبل الموصول بالسياج".
ومن ثم كيف للثائر "سعدي" أن يرى قريته "دمرة" قريبة منه قرب رمشه من عينه ولا ينتفض للعودة إليها.. وكيف للأرض ألا تحتضن أحلام الشهداء الذي صدقت قلوبهم!.
شمال شرق غزة تقع دمرة، وتبعد عنها نحو 12 كيلو مترًا، وتبعد عن مساكن بيت حانون حوالي أربعة كيلو مترات، على جنوبها توجد أراضي بيت حانون، ومن الشمال أراضي دير سنيد، ومن الشرق أراضي نجد، ومن الغرب أراضي بيت لاهيا.
دمرة سيجت كلها، واستخدمها جنود الاحتلال مرعى للمواشي، لا شيء يذكر بقي من البلدة سوى حوض مياه حجري، وأنقاض الإسمنت من المنازل وحائط مهدم، وبئر تعلوها مضخة قديمة وغير صالحة للاستعمال كما أن كثيرًا من الركام يقع قرب مقبرة يهودية.
نبات الصبار يحيط بالسياج الحدودي هناك، عدا عن العوسج والنباتات الشائكة، وفي سنة 1949أسست مستعمرة إيرز على جزء من موقع القرية.
"سعدي" ارتقت روحه بعد أن قص السياج واجتازه، ووصل إلى "دمرة"، فمنحته الأرض حلمه قبل ارتقائه شهيدًا.
تُرى، كيف بدت نشوة النصر في قلب "سعدي"؟ كيف حدَّث جده الدمراوي عن دفء شعور العودة حين التقاه في السماء! ثم ماذا همس لتراب "دمرة" حين احتضنه "سعدي" هنيهة قبل أن يحتضنه نفس التراب "للأبد"!
لم تكن الأرض قاسية حد أن تحتضن "محمد عليان" في جنباتها وتنسى بقية أحبتها فوقها دون طبطبة!
الورد هذا من الحديقة التي لازم محمد الجلوس فيها.. قبالتها لعب مع أطفال العائلة.. خطط لمستقبله.. وضع لائحة أمنياته وهو يعلم أن في هذه البلاد الجريحة تغدو الأحلام محض انتظار وترقبًا بخوف!
قبالة الورود كان يجلس محمد بعد أن يسقيها مع رفيقة قلبه.. "أمه" التي تختصر ألم رحيله في عبارتها: "فقدت نفسي عندما رحل محمد"!
أخته ولاء تشعر باندهاش كلما ضمرت في نفسها أن تقطف ورد الحديقة في اليوم التالي لمحمد، لأنها ستزور قبره وتنثر الورد عليه.
يتفتح الورد كثيرًا لأجل محمد، لأجل عيني أمه المرهقتين، لأجل قلب أخته الذابل.. تستقبلهم الأرض بحنية، تنسى أنها اشتاقت لأكثر محبيهم فاختطفته من بينهم وأسكنته جوفها.
إشراقة الورد يواسي ولاء.. كما الطفلان "شهد وعلي" أدهشا أمه وأسعدها وجودهما قريبًا من حبيبها.. فيؤنسان وحدته.. ويشعرانها بارتوائه.
في كل زيارة لقبر "محمد" تصل أمه، تتفقد حوله، ما زال التراب رطبًا.. تحمد الله.. تطمئن أن الشجرات الثلاثة ما زلن يظللن قبره، فتتسع رقعة سعادتها.. تردد "الحمد لله الشمس بتيجيش على محمد".
على سور المقبرة نادت طفلة على أمه، قائلة: "بتحتاجي اشي يا خالة؟" فشعرت الأم أن الله يحب محمد حين أرسل له من يسقي قبره كل يوم فلا تتيبس من حوله الرمال.
- ما اسمك؟
- اسمي شهد!
ياااااه.. لم ينسك الله يا محمد، همست أمه.. أرسل لك "شهد" على اسم أكثر الطفلات التي أحببتها في حياتك، أرسلها على اسم ابنة أخيك التي لطالما كنت تحملها وتدور بها مرحًا وضحكًا.
برفقة الفتاة كان صبيا، أتى معها ليعطيا أمه دلو الماء كي تسقي قبر محمد
كان اسمه "علي"، إذ كيف يتجلى كرم الله في أبسط الأمور؟!
فمن في القبر "محمد" كان يتمنى أن يكبر وينجب طفلًا يسميه "علي"، ومنذ طفولته ورفاقه ينادونه "أبو علي".
وتتساءل كثيرًا...
كيف أعادت الأرض إلى محمد شهد وعلي وكثيرًا من الورد!