مكتوب: أمّيةٌ عقلية بالرغم من كثرة الحفاظ والتالين

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

د. يوسف علي فرحات

بالرغم من الأعداد الكبيرة  من حفظة القرآن الذين تضخهم مدارس ومراكز التحفيظ في العالم الإسلامي؛ إلا أن واقع المسلمين مع القرآن وعلاقتهم به مؤرق، ولا نبالغ إذا قلنا يحكمها الهجر والعقوق، وذلك بسبب أن أكثر المسلمين اليوم مازالت علاقتهم بالقرآن منقطعة، هذا من جانب ومن جانب آخر أن الذين لهم علاقة جيدة بالقرآن - إن كان ذلك حفظاً أو تلاوة - تسربت إليهم علل الأمم السابقة في التعامل مع كتبهم، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [البقرة: 78], أي: لا يعلمون الكتاب إلا تلاوة وترتيلاً، غير عارفين بمعانيه، مكتفين بالحفظ والقراءة بلا فهم.

وهذه الأمية العقلية التي تعيشها الأمة اليوم في تعاملها مع القرآن هي التي تعني: ذهاب العلم، كما جاء في حديث زياد بن لبيد، الذي أخرجه أحمد في مسنده وابن ماجه في سننه بإسناد صحيح، قال زِيَاد بْن لَبِيدٍ: ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، فَقَالَ: (ذَاكَ عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ الْعِلْمِ) ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ، وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَنُقْرِئُهُ أَبْنَاءَنَا، وَيُقْرِئُهُ أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ زِيَادُ إِنْ كُنْتُ لَأَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ، أَوَلَيْسَ هَذِهِ الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى، يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ، وَالْإِنْجِيلَ لَا ينتفعون مما فيهما بِشَيْءٍ).

إن هذا الحديث ليؤكد أن مشكلة المسلمين اليوم مع القرآن الكريم تتمثل في: منهج الفهم الموصل إلى التدبر وكسر الأقفال التي على العقول والقلوب, لذا يجب أن تنصب الجهود اليوم في التعامل مع القرآن على مناهج الفهم، وإعادة فحص صلاحية المناهج القائمة، والتحرر من تقديسها.

وفي الوقت الذي ندعو فيه إلى الاهتمام بمناهج الفهم وإعطائها الأولوية، لا يعني أننا نهون من أهمية ضبط الشكل وحسن الإخراج وسلامة المشافهة، ولكن يجب أن يرافق هذا كله إعادة النظر في الطريقة حتى نصل إلى مرحلة التأمل والتفكر والتدبر التي ترافق القراءة.

وهنا لا بد أن نحذر من التوهم بأن الأبنية الفكرية السابقة التي استُمدت من القرآن في العصور الأولى هي نهاية المطاف؛ وأن إدراك أبعاد النص مرتهن بها في كل زمان ومكان، لأن في هذا محاصرة للنص القرآني وقصر فهمه على عصر معين، وهذا يساهم بقدر كبير في الانصراف عن تدبر القرآن وإقامة الحواجز النفسية التي تحول دون النظر العميق فيه.

فلابد أن نقرأ القرآن قراءة واعية متدبرة نتفاعل معه بكل كينونتنا، بحيث نرتفع إلى مستواه، وفي هذه الحالة سيمنحنا القرآن الشيء الكثير، وسيفيض علينا من عطاياه، حيث إنه لا يَخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه.

وبهذه المناسبة ينبغي الإشادة بالجهود التي بذلها المركز العالمي للفكر الإسلامي في العقود الأخيرة في سياق خدمة فهم القرآن الكريم، فقد أصدر المركز مجموعة من الدراسات والمؤلفات لخدمة هذا الهدف كان أشهرها كتاب: (كيف نتعامل مع القرآن) للدكتور يوسف القرضاوي، والشيخ محمد الغزالي- رحمه الله-. كما صدرت عشرات المؤلفات عن العديد من المراكز التي أنشئت خصيصاً لهذه الغرض، نأمل أن تساهم في محو الأمية العقلية في التعامل مع الكتاب العزيز.

وفي السياق نفسه آمل من الأخوة القائمين على مراكز التحفيظ في بلادنا أن يُعطوا مسألة الفهم والتدبر مزيدًا من العناية، وأن يراعوا في ذلك المراحل العمرية للطلاب المنتسبين لهذه المراكز.

 

البث المباشر