لم يجد الموظف خالد القرا مصرفا يقبل بشراء المئة دولار التي تلقاها من البنك كراتب شهري، بحجة أنها قديمة وعليها بقع صفراء.
معاناة الموظف القرا في تصريف المئة دولار، دفعته لبيعها بسعر أقل بـ 20 شيكلا من سعر صرفها في السوق، ليخسر الموظف 6% من قيمتها دون وجه حق.
واستنكر خالد ما آلت إليه أوضاع القطاع المصرفي في قطاع غزة، حيث تفقد العملة قيمتها لأسباب وحجج وهمية دون وجه حق، في حين رفض موظف البنك، تبديل 300 دولار قديمة ويظهر عليها بقع صفراء للموظف محمود شاهين، ليقول له الموظف: "كلها زي هيك، ما في عملة جديدة".
وبعد حالة من التجاذب مع موظف البنك، اضطر الموظف لأخذها وخسارة 13 شيكلا لكل مئة دولار.
وقال شاهين: "خسرت قرابة 40 شيكلا من مرتبي الشهري على غير وجه حق، متسائلا عن كيفية الوصول لحلول جذرية لتلاعب البنوك والتجار بالمواطنين.
ويشهد قطاع غزة حالة نادرة للغاية قد لا تجدها في أي دولة أخرى بوجود تسعير مختلف لنفس العملة عند شركات الصرافة، حيث تنتشر ظاهرة ما يسمى بالدولار الأزرق "الجديد"، والدولار الأبيض "القديم" في الأسواق، ويتم تسعير الدولار الأبيض بسعر أقل من الدولار الأزرق.
"الرسالةنت " بدورها طرقت الأبواب لمعرفة السبب في خسارة العملة لقيمتها، والأيدي الخفية التي تتلاعب بأسعار الصرف.
طريقة الغسيل
استطاع مراسل "الرسالة" مقابلة الشاب رائد الذي رفض الكشف عن اسمه بالكامل، في منزله وسط مدينة غزة، حيث يعمل على غسل عملة الدولار المهترئة من محلات الصرافة والمواطنين بأسعار أقل وبيعها بسعر أعلى نسبيا.
في منزل رائد الذي زاره معد التحقيق، يوجد بعض الورقات من العملة الأمريكية المهترئة ومحلول رفض رائد الكشف عن ماهيته ومادة الكلور وفرشاة صغيرة.
وقال رائد: "أشتري الدولارات صعبة القبول لدى الصرافين والمواطنين بسعر منخفض يصل في بعض الأحيان لنصف سعرها -المائة دولار الواحدة تخسر 180 شيكلا-.
"بعد جمع عدة أوراق أعمل على تنظيفها بالمحلول والكلور وأعيد تصريفها بسعر أعلى _المائة دولار الواحدة تخسر 30 شيكل-"، مشيرا إلى أن هناك ورقات يصعب عليه تصريفها مجددا وبعضها يتلف أثناء الغسيل فيخسرها.
ورغم ذلك يؤكد رائد أن العمل مربح ولكن بحاجة لجهد في جمع العملة الأمريكية واقناع صاحبها بأن يتخلى عنها مقابل نصف السعر أو أعلى من ذلك بقليل.
وخلال الأشهر الأخيرة، يقبل أغلب الصرافين العملة الأمريكية القديمة -الورقة البيضاء- والتي عليها بقع صفراء وبعض التلف بسعر أقل ومن ثم يعملون على تصريفها للبنوك أو ايصالها مع التجار للبنك الاسرائيلي بنفس سعر صرفها الحقيقي.
واستغل الكثير من التجار هذه الظاهرة حتى باتت طريقة تجارة بحد ذاتها بعيدا عن عملهم الأساسي المتمثل في صرف العملات وتحويلها.
بدوره قال الصراف محمد أبو عيطة إن تصريف العملة المغسولة والتالفة صعب جدا على الصراف وهو ما يدفعه لتخفيض سعرها بقيمة تتراوح من (5-30) شيكلا.
مراقب شركة صرافة: عرضنا المشكلة على سلطة النقد، ولم نتلقَ ردا
وأوضح أبو عيطة أن هامش الربح يأتي بدل تصريف هذه العملة وكذلك بسبب ضياع بعض علامات كشف التزوير مع غسل العملة أكثر من مرة.
الصراف أبو فهد حمدونة ذكر أن ارتفاع تسعيرة الدولار الجديد "الأزرق"، عن القديم "الأبيض" بسبب أن الدولار الأبيض الذي عليه بُقع ومهترئ يسهل تزويره، وكثير منها لم يعد مقبولا كوسيلة دفع مما أدى إلى تبديل هذه العملات بسعر أقل من قيمتها الفعلية في السوق.
وكسابقه، قال حمدونة إن الخصم يتراوح من (1-30) شيكل، وفق ما يرتئيه الصراف ويقدر نسبة اهتراء الورقة النقدية، فالورقة شديدة الاهتراء تخسر 30 شيكلا وتقدر بـ 8% من قيمتها.
وتجدر الإشارة إلى أن قطاع غزة، بيئة نشيطة بتبديل العملات في ظل اعتماد الاقتصاد الفلسطيني على ثلاث عملات رئيسية "دولار، شيكل، دينار".
أساس المشكلة
وتكمن المشكلة في أن أغلب الدول تتمكن من استبدال الدولار القديم بالجديد، وهي عملية تسير بسهولة من خلال البنوك التي بدورها تشحن النقد عبر قنوات مصرفية ليصل بالنهاية إلى الفيدرالي الأمريكي، الذي يعدم الطبعة القديمة ويطبع نفس العدد من العملة الجديدة.
وعن سبب التسمية المحلية، التي لا نجدها خارج قطاع غزة، فإن الدولار على مدار السنين حمل اسم "الأخضر" في معظم الدول، وشهد العديد من الطبعات المختلفة التي يحاول فيها الفيدرالي الأمريكي تغيير معايير مكافحة التزوير لتختلف الطبعات على مر السنين والتي كانت في معظمها تستخدم ورقا يميل إلى اللون الأخضر الباهت.
ولكن في أبريل عام 2010 تم الاعلان عن تصميم جديد لفئة المئة دولار لتدخل التداول الرسمي في أكتوبر عام 2013 وتحمل اختلافا باللون ليكون مائلا بشكل كبير للون الأزرق بالإضافة إلى اختلافات في الشريط المستخدم لكشف التزوير.
من جهته، ذكر الخبير المالي الدولي الحسن بكر أن الوضع المالي في قطاع غزة، مختلف عن العالم الخارجي قليلا بسبب الحصار المفروض على القطاع.
وقال بكر في مقابلة مع "الرسالة": "لم يعد بإمكان البنوك نقل النقد، وتحتاج العملية إلى مفاوضات طويلة ما بين سلطة النقد الفلسطينية والبنك المركزي الإسرائيلي، لكن ذلك اقتصر فعليا على نقل العملة الاسرائيلية الشيكل في حالات محدودة وادخال مبالغ من الدولار بناء على تفاهمات مع وكالة الغوث لصرف رواتب موظفيها في غزة".
خبير مالي: يصعب على البنوك نقل النقد، وتحتاج مفاوضات ما بين النقد و(إسرائيل)
وأوضح أن المشكلة تتمثل في عدم قدرة البنوك على نقل النقد التالف أو القديم، والذي يتسبب في بقاء كميات كبيرة منه بفعل تعرضه للمياه، أو اللون البني نتيجة الاكتناز.
وأضاف بكر: "مع دخول مبالغ من الدولار الأزرق الجديد إلى الأسواق باتت الثقة لدى المتعاملين والبنوك أكبر بالطبعة الزرقاء، التي قلّت فيها عمليات التزوير وبالتالي أصبح المتعاملون يفضلون النسخة الجديدة من الدولار بدلا من التداول بالقديمة ذات اللون الأخضر الباهت والتي أطلق عليها محليا اسم (الدولار الأبيض).
ولفت إلى أنه مع ظهور الطبعة الجديدة، بدأت شركات الصرافة بوضع تسعيرة مختلفة لعملية التبديل، حين يكون الأمر متعلق بالتبديل النقدي وفرق في التسعير للدولار الأزرق عن الأبيض.
وفي حديث عن الدولار المغسول، قال بكر هو عبارة عن ورقة نقدية رسمية ولكن نتيجة سوء التخزين تظهر عليها علامات العفن فيلجأ البعض إلى غسلها.
وأوضح أن الغسيل يتم بواسطة محلول معين عبارة عن مزيح يضم مادة الكلور ومن ثم تنشيفه سواء من خلال نشره في الشمس أو بواسطة الكوي وذلك لإزالة العفن ليتمكن من جعله مقبولا للتبادل من قبل الزبون الذي قد يرفض قبول الدولار المتعفن نتيجة شكله.
وبيّن أن عملية الغسل تؤدي إلى فقدان الدولار لمعته الاعتيادية بالإضافة إلى بهتان لون الورقة وميلها إلى الأبيض أكثر من الأخضر الاعتيادي للطبعة القديمة من الدولار.
البنوك تخلق أزمة
وفي مقابلة مع عضو نقابة الصرافين جهاد بسيسو، ذكر أن القطاع المصرفي يعاني عدة مشاكل منذ بدء الانقسام عام 2007، وما واكبه من حصار إسرائيلي واغلاق للمعابر وتقييد لحركة الأموال.
وقال بسيسو إن الصرافين يجدون صعوبة كبيرة في نقل كميات من الأموال عبر المعابر، فتبديل العملة التالفة والقديمة يستغرق شهورا عديدة.
نقابة الصرافين: البنوك تتحمل تبعات أزمة الدولار المغسول لأنها لا تقبله من الزبائن
وأضاف: "أزمة الدولار المغسول وما تبعها من تخفيض قيمته، تتحمل تبعاته البنوك التي ترفض بدورها قبول العملة التالفة والمغسولة".
وأكد أن قبول البنوك لهذه العملة والتنسيق مع سلطة النقد بتحويلها لـ(إسرائيل) وتبديلها سيحل المشكلة بالكامل، مستغربا من عدم قبول البنوك للعملة.
وأشار إلى أن الأشخاص والصرافين الذين يذهبون للبنوك لإيداع الأموال يواجهون صعوبات لرفض موظف البنك قبول بعض الأوراق المالية.
ووفق بسيسو، يفترض أن يتم تبديل العملة التالفة بكل سلاسة دون صعوبات أو أي خسائر، مشيرا إلى أن فرق السعر الذي يأخذه الصراف بسبب تعرضه للخسائر في بعض الأوقات في حال صعوبة تصريف هذه العملة.
ودعا سلطة النقد لتحمل مسؤولياتها تجاه الأزمة، والتحرك العاجل لإنهائها بتبديل جميع العملات التالفة.
ولفت بسيسو إلى أن سوء تخزين الدولار ينتج العديد من أوراق النقد التالفة، وهو مثل الصدأ باعتبارها ورقة قطنية مضافا إليها مواد أخرى.
لا تعليق من سلطة النقد!
وفي مكتبه الواقع وسط مدينة غزة، يجلس فايز سرور مراقب شركة البرعصي للصرافة يعد النقود ويدقق في الكشوفات، مؤكدا لمعد التحقيق أن العملة التالفة تسبب صداعا للصراف.
وقال سرور إن شركته ترفض العملة التالفة مقابل خسارة في قيمتها، مؤكدا أنه في حال كانت نسبة التلف في الورقة أقل من النصف تصرف بنفس السعر، وفي حال كانت أكثر فلا يتم قبولها بسبب صعوبة تصريفها.
صراف: هامش الربح بدل تصريف "التالفة" وضياع بعض علامات كشف التزوير
وأكد أن شركته وجميع الصرافين على تواصل مع سلطة النقد، عرضوا المشكلة على السلطة ولكن لم يتلقوا ردا بأن الأزمة ستنتهي.
محاولات معد التحقيق في الحصول على رد من سلطة النقد لم تنجح، حيث رفضت التعليق على الموضوع، لكن في تصريح مقتصب، وصل "الرسالة نت" منتصف يونيو الماضي، قال محافظ سلطة النقد عزام الشوا، إن "الجهود المكثفة والتي تم بذلها مع كافة الجهات ذات العلاقة بهدف تلبية احتياجات المواطنين والتخفيف من معاناتهم أثمرت عن استبدال التالف من العملات المختلفة في قطاع غزة".
وأوضح الشوا أنه جرى استبدال ما مجموعه 155 مليون شيكل، و4.3 مليون دولار، و1.1 مليون دينار واستبدالها بفئات حسب احتياجات المواطنين في قطاع غزة.
وأشار إلى ادخال سلطة النقد 15 مليون دولار، وعملة معدنية من فئة النصف شيكل الى قطاع غزة.
غاسل للأموال: أجمع الدولارات صعبة التصريف بسعر منخفض وأعيد بيعها بعد غسلها
في ظل صمت سلطة النقد
وتوقع سرور أن تزيد الأزمة خلال الفترة المقبلة، في حال لم تتدخل سلطة النقد وتخرج التالف، مشيرا إلى أنه في حال البدء بتبديله تباعا ستنتهي الأزمة خلال عامين.
وتجدر الإشارة إلى أن استبدال العملات يتم مرة كل عدة شهور، في حين يحتاج القطاع إلى أن تتم العملية شهريا لإنهاء الازمة.
وعن أسباب ظهور العفن على العملة الأمريكية، لفت الخبير المالي بكر إلى أن تخزين الدولار أسفل الملابس أو في أكياس من النايلون سبب العفن.
وفي ذكره لمشاكل القطاع المصرفي في غزة، قال الخبير المالي بكر: "هناك العديد من المشاكل الأخرى التي يواجهها القطاع المصرفي والمالي في قطاع غزة نتيجة الحصار وتعنت الاحتلال (الاسرائيلي) في نقل النقد والتي تتمثل بنقص السيولة في الأسواق مما يجعل الأسعار المحلية في الكثير من الأحيان أعلى أو أقل من الأسعار الرسمية ما بين البنوك".
والمتتبع لتاريخ ظهور الأزمة، يرى أنها تزداد يوما بعد الآخر، حتى باتت تجارة بحد ذاتها، وهو ما يؤكد وجوب أن تقف سلطة النقد أمام مسؤولياتها بالكامل، وبذل جهودها بإخراج جميع العملات التالفة باستمرار لإنهاء المشكلة بالكامل.