من أين يمكننا أن نبدأ؟! لنبدأ الحكاية من النهاية، من ذلك المشهد الذي تغلفه أصوات أجهزة قياس نبضات القلب، ورائحة المعقمات، وألوان المعاطف الخضراء، يلبسها الأب وابنه على السواء!
من ذلك المشهد يمكننا أن نبدأ، من نومة "ساري"، صاحب الجسد الممدد في مستشفى "مار يوسف" بالقدس، بدون أي قدرة على الحركة، ووقوف والده الطبيب داوود الشوبكي إلى جانبه هامسا في أذنه، قل يا ساري: أشهد ألا إله الا الله، سنلتقي في الجنة قريبا، سامحني يا بابا " ثم يسلم ساري أنفاسه ويغلق عينيه.
وبين الإصابة والموت، عقدة الحكاية، ستة وستون يوما من الوجع، انتظار روح شاب أصيب في رقبته، إصابة قاتلة، ليخبرنا أن الموت حقيقة لا بد منها، لا مفر، فمن ذا الذي ينجو من طلقة في الرقبة؟!
الجميع ينتظر اللحظة التي تنهي القصة سريعا، فربما بعدها يمكن للجميع أن ينسى، الانتظار قاتل، والانتظار بدون أمل قاتل ألف مرة، وأصوات كثيرة من بعيد تهتف " الموت راحة"، أجل، يمكنك أن تتمنى الموت لابنك إذا كان في الموت راحة.
الجميع يفقد الأمل، جزئيا أو كليا، إلا رجل واحد!
داود الشوبكي، لم يكن طبيبا عاديا، فهو والد ساري، وحينما يكون الطبيب أبا، سيتحدى العالم ليحاول إنقاذ حياتك، من بين يأس كل المحيطين!
وبعد أن كان ساري ممددا في أروقة مستشفى الشفاء، بإصابة ميؤوس منها، انتشله والده وركض به إلى غرفة العمليات، ليخرج منها ابنه بشلل رباعي كامل، لا حراك في الأطراف، ولا في الأعضاء الداخلية.
المعدة لا تهضم، الأمعاء لا تعمل، جسد ممدد لا يقوى على بلع شربة ماء، وجه لا يقوى على إرسال إشارة، ملامح الموت مرسومة بإتقان على وجه غض لم يتجاوز الثانية والعشرين، والذي لم تكن هذه قصته الأولى في مواجهة الموت.
فحسب والدة ساري فإنه ولد لستة أشهر، وفقد الأطباء الأمل في حياة جنين لم يدخل حتى شهره السابع لنستطيع أن نقول إنه خديج!
ولكنه كان، وله نصيب من الحياة فكبر في حضانة المستشفيات، وتلقفته الدنيا كطفل كثير العلل بسبب ظروف ولادته، حتى أنه كما تقول أمه:" في الخامسة من عمره أصيب بمرض السحايا ومثل كل مرة، فقد الأطباء الأمل في شفائه، فهذا الجسم الصغير لا يقوى على ارتفاع درجة حرارته، وحياته باتت مهددة لخطورة وضعه، وقال الأطباء فاقدين للأمل ان أمامه أربع وعشرين ساعة حتى ينجو، ونجى، وعاد إلى الحياة من جديد".
ولأن أطفال الموت ليس لهم مثيل، تميز عن كل إخوته بالطاعة والبر كما تقول أمه:" لم يكن يقول لي كلمة "لا" لم أسمعها منه يوما، كنت أتعجب وأسأله، لماذا لا تقول لي كلمة "لا" يا ساري، كلما طلبت منك طلب تسارع لتنفيذه، بل أنه يركض ركضا، بكل ما أعطاه الله إياه من حب، سعيد بأنه بار بوالدته"
وليس كل الأبناء على درجة واحدة من الرضى، فذلك الذي لا يعرف كلمة لا، حينما يرحل يترك فراغا في قلب والديه أكثر، ويكون رحيله كاسرا للقلب.
وربما كان الموت أكثر ايلاما في قصة ساري، لأنه لم يعط الفرصة كي يعود للحياة مرة أخرى، ويمكنك أن تقرأ حجم الولع والألم في قصته من خلال والده، الذي جلس على رأسه في غرفة العناية المركزة لشهرين.
أشرف وحده على حالته، راقبه عن كثب، أملا وحيدا من بين كل القلوب التي يئست، فكان يلقنه الكلمات، ويدربه على الردود، ويطعمه بنفسه حتى عادت المعدة والأمعاء للعمل، وعادت إليه حاسة الشم وأصبح قادرا على أن يشعر بلمسات إخوته ليديه وقدميه.
وابتسامة ساري قصة أخرى: يطلب منه والده ان يبتسم، فتظهر أسنانه عن ضحكة مشرقة، كلها أمل وثبات، فلماذا لم يعطوه فرصة أخرى للحياة؟!
ليس اعتراضا على قضاء الله ما طرحناه من سؤال، فالموت قدر، ولكن الأطباء في مستشفى مار يوسف تحدوا قدر الحياة بنفس القدرة والعزيمة التي كان يتحدى فيها ساري ووالده الموت، هو أراد لابنه حياة جديدة، وهم لم يكن لديهم الإيمان ليشاطروه الصبر والثبات والعزيمة، فكانوا يناكفونه حتى في الحصول على أبسط حقوقه من الدواء، بل ويتقاعسون في توفير الحقوق العلاجية الشرعية، في تحد لكل المواثيق الإنسانية، وللأيمان التي يحلفها كل أطباء العالم بكل الديانات أمام مرضاهم، وكل هذا ظنا منهم أنه ميت لا محالة.
هذا ما قاله والده الدكتور داوود الشوبكي، مرافقه الوحيد المكلوم!
وفي اللحظة الحاسمة من الوجع، وبينما يستقر وضع ساري شيئا فشيئا، يجلس والده أسفل قبة الصخرة يدعو الله بأن يتم شفاء ابنه، شاكرا، راضيا عن تلك المرحلة من الشفاء والتقدم التي وصل لها في شهرين اثنين فقط، ويعد نفسه بمزيد من الصمود، فالوقت أمامهم طويل، والأمل مخزون لا ينفد.
وما إن رفع يديه إلى السماء، حتى أتاه خبر احتضار ابنه في اتصال عاجل من " مار يوسف" فركض سريعا، متعجبا، ساري الذي استطاع بالأمس أن يقرأ أربع صفحات من القرآن الكريم، كيف يعود أدراجه ويقرر فجأة أن يرحل؟! ما الذي حدث في غيابه؟!
كانت لحظة، يعلم الله نوايا أصحابها، انتزع الممرض في المستشفى العبري، أنبوب التنفس من رقبة ساري بحجة تعقيمه، فثقب المريء لتخرج روح ساري سريعا، فيحسم الأمر، ويكف الجميع عن الانتظار، ويتوقف الأمل في قلب ذلك الرجل صاحب الرسالتين، الأبوة والطب، الذي لم يكن أمامه في لحظة النهاية سوى أن يكتم شهقة القهر والغضب في صدره.
وما أصعب الهزيمة، والخسارة في التحدي، متجسدة في خطوات الدكتور داوود وهو يمسك بيد ابنه مسلما أمره لله، خاتما القصة كما بدأناها بالقرب من سرير ساري مرددا
" قل يا ساري: أشهد ألا إله إلا الله، سنلتقي في الجنة قريبا، سامحني يا بابا"